الفصـل الثاني
اللهم استر يارب،
اللهم احفظ يا رب،
هذا ما قلته في خاطري قبيل أن نلج سيارة الأجرة. فقد كان السائق ملتحيا، أحاط رأسه بعمامة، أكثر من ذلك كان بصدد الاستماع إلى أحد الأشرطة الدعوية للشيخ عبد الحميد كشك، إن لم تخني الذاكرة، هي حيلة يعمد إليها بعض سائقي سيارات الأجرة الصغيرة وحتى الحافلات لاستقطاب الناس. ومثل هؤلاء تكون رؤوسهم فوارة تغلي أو قنابل موقوتة تتحين أول فرصة للانفجار، إذ ما أن يصدر من الزبون ما يفيد أنه من الميؤوس استقطباهم حتى يقيم السائق القيامة. قد ينقلب الأمر إلى تبادل شتائم وربما إلى شوط ملاكمة بين الإثنين. وقلما يكون الركاب يقظين والمواقف مناسبة للإطاحة بمثل هذه الرؤوس على نحو ما أطاح بأحدها ركاب حافلة بين أكادير وطنجة، حيث أوقفوا العربة، ونادوا رجال الدرك، فاقتيد السائق على الفور إلى السجن فالمحكمة لينال 3 أو 5 سنوات سجنا نافدة جزاء محاولته العبث بعقول المسافرين.
وفي حالتي أنا والمرأة الشيطانة، كان يملك السائق الأعذار قاطبة لاقتيادنا إلى أول مكتب للشرطة وإيداعنا هناك بدعوى تدنيس مكان عمومي والميوعة والانحلال الأخلاقي وما إلى ذلك، ولن تنتظر الشرطة أكثر من هذا لتقيم القيامة بسببنا وتقدم للصحافة مؤونة أسبوع من الأطباق اللذيذة والمبيعات الصاروخية ولملايين رواد المقاهي مأدبات يومية للنميمة وعبارات التشفي، إذ ما أن ستطالبنا الشرطة بالإدلاء ببطاقتي هويتينا ونفعل وتسألنا عن حالتينا العائلية فتكتشف أن المرأة متزوجة وأني مطلق حتى تفجّر قنبلة بقوة هيروشيما أو أكثر:
«الشرطة تلقي القبض على فلانة الملتزمة مسؤولة القطاع الاجتماعي والنسوية المعروفة بدفاعها عن المغتصبات والمطلقات وضحايا عنف الرجال صاحبة الكتب الخمسة في الموضوع المترجمة إلى سبع لغات، متلبسة رفقة معلم سكران» (بحروف بارزة ضخمة الحجم طبعا في الصفحات الأولى لجميع الصحف).
هذا ما سيعزفه مزمار وكالة المغرب العربي للأنباء، لتتبعه طبول الصحف المحلية وربما الدولية، ثم ينادي منادي: «حي على الصلاة حي على الفلاح»، وها هو زوجها يلبي النداء حاملا طفلته في يد وجارا ولده بأخرى، ليتبعه سكان الحي وأبي وأمي وإخواني وأخواتي وعشيرتي وعشيرة المرأة الخائنة، فنصلب في الشارع العمومي أو نرجم بالحجارة في قاعة المحكمة، وتقام لنا حملة دولية في الأنترنت، من أجل الإنقاذ والخلاص، على غرار المرأتين النيجيرية واليمنية اللتين وصلت حكايتهما إلى قبة الكنجرس الأمريكي وجزر الوقواق والثلث الخالي من الدنيا وأماكن أخرى ربما لا نعرفها جميعا..
مرت هذه الكوابيس مجتمعة في ذهني في لمح البصر، ارتفعت دقات قلبي إلى أن خلتها صارت تسمع من الخارج، فإذا بصاحبتي تعيد كل شيء إلى نصابه بمنتهى البرودة والهدوء؛ غمزتني كي أصمت، تولت هي مهمة التواصل مع السائق، حيته بفرنسية طليقة أنيقة، دست في يده قطعة نقدية، ثم تجاذبت معه أطراف حديث قصير مُسَدَّد بدقة نحو الهدف كطلقات رصاص رماها قناص ماهر خبير؛ أفهمته أننا فرنسيين من أصل مغربي، نزلاء عند أقارب بعيدين لنا، وأننا كنا في السفارة، الخ. ثم ختمت الحديث بالتشكي من التعب، فما كان من السائق إلا أن أسكت الشيخ عبد الحميد كشك واستبدله بموسيقى صلو هادئة، ارتمت الشيطانة على إثرها عليَّ وأغرقتني بالعناق والقبل. لم ير السائق شيئا أو تظاهر، خفظ سرعة السير، وتمايل من حين لآخر على عزف الموسيقى الجميلة.
في ثاني يوم من إقامتها معي في المنزل، أخبرتها بما راج في خاطري قبيل الصعود إلى سيارة الملتحي، قهقهت ضاحكة، ثم قالت:
- والله إنك لتفكر ببراءة طفل صغير. صدقني أن صاحبك ذاك لن يكره النوم معي، قرأت ذلك في عينيه ونبرة صوته، ثم لو كنتُ وحيدة وشئت الإيقاع به لما أفلت من قبضتي، لأطبقت عليه، والله، مثل دجاجة فما يكون للحديث بقية بيننا إلا فوق السرير وبين أكاليل زهورك المحبوبة الحمراء...
- ولكن هبي أن خطتك لم تفلح
- اسمع. أخبرك من الآن فصاعدا، أنا قادرة على تدبر شؤوني مع الشرطة، أما شؤونك معها فلا، إن كنت خوّافا لهذه الدرجة فابق الاحتمال قائما: احتمال أن يُلقى القبضُ علينا في يوم من الأيام، ثم هيء منذ الآن سبُلَ إفلاتك من العقاب. اعلم أنه [=زوجها] لن يتركني أبيت ليلة واحدة في مخفر الشرطة؛ إذا ما نادوه وقالوا له: ألقينا القبض على زوجتك متلبسة فسيقول لهم: وبعدُ؟! هي زوجتي تخونني، وأنتم ما دخلكم في الموضوع؟ هي زوجتي، فعلت ما فعلت وها أنا على علم بما فعلت، لقد سامحتها، فاخلوا سبيلها.. فيفحمهم إلى ألا يجدوا بدا من إطلاق سراحي، لكنه لن يخلصك من قبضتهم...
دخلنا المنزل، سألتْ أين المطبخ، اتجهت نحو الثلاثة، استغربتْ:
- لا يوجد شراب؟!
- ألازالت لك رغبة في السكر؟! لقد شربنا كثيرا !...
- نعم، أريد أن أسكـر
- حاضر
تهيأتُ للخروج، قالت لن أبقى وحيدة في المنزل، دست يدها في يدي، ثم انطلقنا نحو أقرب سيبر ماركي، شعرتُ بأنني إنسانٌ آخر. عاودني الحنين إلى زوجتي الأولى والثانية. أحسستُ أنني إنسان آخر لأنني لأول مرة، منذ طلاقي الأخير، أخرج مع امرأة في الشارع جنبا إلى جنب، بل وداسا يدي في يدها، وهو ما لم أقو إلى اليوم على القيام به مع أي واحدة من هؤلاء البنات اللواتي يزرنني في البيت متخفيات ويغادرنه متخفيات بتواطؤ مزدوج بيننا طبعا؛ لا مصلحة لهن في الجهر بالعلاقة كما لا مصلحة لي، ويكفي أن يُخلّ طرف بهذا الالتزام الضمني وها هي بداية أم المشاكل؛ يكفي أن تتردد إحداهن على منزلك مرات أربع أو خمس وتقدمها لأكثر من صديق، وها هي تنظر إليك بعين من زواج وتتصرف بيدين عمليتين: واحدة تسعى لإقامة الحجة والشهود عليك والأخرى تنادي العدلين والقاضي وتفكر في أمور الحبل ومستشفى الولادة وما إلى ذلك من الالتزامات العائلية التي هشمت أضلعي تهشيما..
لحظة تسديد ما تبضعناه معا كدنا نشتبك بالأيدي أمام صاحبة الصندوق: أنا أخرج قطع النقود من جيبي وأضعها أمام العاملة والمرأة الشيطانة تحمل النقود وتعيدها إلى جيبي بقوة مستبدلة إياها بنقودها... أيقنتُ أنني أمام امرأة كريمة، تأكد يقيني في اليوم الرابع، لحظة الوداع؛ وضعتْ خلسة ظرفا بريديا مغلقا في غرفة النوم، ولحظة ركوبها سيارة الأجرة الصغيرة فقط أخبرتني بما فعلت:
- بمحاذاة السرير، فوق المائدة الخشيية الصغيرة، ستجد ظرفا بريديا أصفر اللون مغلقا، إياك أن تمزقه أو تلقيه في سلة المهملات، خذه، فهو لك، فتحته، فإذا به مبلغ 2000 درهم (حوالي 200 دولار)، قلتُ: لو كانت كل البنات اللواتي ترددن على بيتي منذ طلاقي إلى الآن من هذه السلالة، لما كنت مدينا اليوم للأبناك بمبلغ 000 20 دولار، بل لربما كنتُ غادرتُ سلك التعليم وأقمتُ مقاولة حرة صغيرة بدل أن أدوِّخ رأسي يوميا مع الأطفال الصغار في حجرات درس مهترئة يمكن أن تسقط فوق رأسي في أية لحظة.
يُتبَع[center]