خربشات الثقافية
حرير وجد Eniie10

خربشات الثقافية
حرير وجد Eniie10

خربشات الثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
Kharbashatnetالبوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولتسجيل دخول الأعضاء

 

 حرير وجد

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
محمد حيزي

محمد حيزي


ذكر
المواضيع والمشاركات : 9
الجنسية : تونسيّة
العمل/الترفيه : أستاذ
تاريخ التسجيل : 27/09/2010

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: حرير وجد   حرير وجد Uhh1027/9/2010, 2:45 am


هذه مسالكي إليها ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سحر الأمكنة لا يضاهيه إلاّ الشّعر . هذا السّبيل الوحيد نحو مدينة عاشقة كالحمّامات . قد تكون العجائبيّة مسلكا ممكنا إن أربكها وتضوّع بطعمها . الوقائع لا يمكن أن تنفذ إليها لأنّها لا تقوى على التّشهّي كما اتّفق . لا تقوى على بلوغ الدّهشة إن رمنا ذلك الهامش العابر . ذلك أمري مع هذه المدينة بعد أن أودعتها أبلغ ما أملك . أعمق ما يمكن أن يعتمل في رؤى روائيّ مجنون بالتّوقّع والمجازفة . أليس الحبر المراق مغامرة للحرف وهو يشكّل صحوه وحيرته وسؤاله ؟
ها أنا ألج هذه المدينة . ألوذ بقبابها وبحرها وياسمينها وأحاول أن أقبّلها وأغيب فيها حرير وجد ...








فاتحة لشهوة التّرحال ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

أن نغرق في قصّة حبّ فذلك عصيّ مستباح ... كما لو أنّنا نسلك وعرا ونتلذّذ كلّ لحظة تحدفنا إلى سنوات مضت ... قد لا تكفي الأسئلة إن ولجنا مسالك الرّوح وسحنا في تطواف لا حدود له ...
هذه قصّة قاسم بطلي القلق الثّائر عليّ دائما أهديها إليه مرّة أخرى حتّى يستكين ويحسّ أنّه أجهدني كثيرا وأنا ألج تفاصيله دون إذن منه كعادتي . لسنوات مطوّلة وأنا أباغته وأستبيح كلّ ما مرّ به كما لو أنّه لهفتي الآسرة . الآن فقط يستطيع السّهو ولن أتوقّع أوبة أخرى إليه . إنّها هناك .. تهب للبحر زرقة عينيها حتّى يستمرّ آسرا كما كان .. ينسكب فيهما خفية عن الآخرين .. كي لا ينتبه إليهما أحد .. من عينيها والبحر وتلك الحكايات القديمة الفاتنة رسمت على الورق مدينتها العجيبة .. شكّلتها في دهشة رحم غريب فكان هذا المخاض .. مخاض ليلى الوافي وهي تستحثّني على السّفر إليها بعد غياب طويل .. ملامحها تتبدّى سائبة في ذاكرة طفل بلغ الأربعين بعد .. مخاض عامر الوافي ذلك الرّجل الغريب الغارق في صمته وفيلّته ولا وشائج تجمعه بأحد إلاّ في ما ندر .. ذلك المندسّ في هالة من الأسرار والأسئلة حتّى صار مقصد الكثيرين دون أن يقوى على فكّ خفاياه سوى قاسم أخيرا .. مخاض مريم المسربلة بالنّوايا والجدران العالية .. تلك المرأة اللّغز الّتي تحمل على كتفيها ما لا طاقة لها به .. مخاض بيّة الّتي تعيش على ذكريات سي علاّلة المزيّفة دون أن تكفّ عن وهمها وتوقّعاتها حتّى تتجمّل قدر ما تستطيع .. مخاض مدينة الحمّامات الّتي طرحت أسئلتها وكشفت المستور بعد لأي وهي تجتذب هؤلاء جميعا إليها وتغربلهم كلّ ليلة .. كما لو أنّها شهرزاد بينهم .. تحكيهم في لحظات صمتهم وبوحهم .. تعرّيهم حتّى تؤثّث خطوات أخرى لهم .. تربكهم وهم يتهالكون تباعا .. تطهّرهم من ماضيهم كي ينطلقوا ويتحرّروا من أمسهم الّذي ظلّ يطاردهم .. تهشّم قيودهم واحدا بعد آخر وتستدرجهم من أوجاعهم إلى صباح آخر .. تنقّيهم كأمّ .. كحبيبة .. كدفق روحانيّ .. من منابتهم الأولى .. حتّى تتمكّن من زرعهم مرّة أخرى في أرضها وتهبهم جذورا ووجوها وملامح لا عهد لهم بها . ملامح طفولتهم الأولى قبل أن يترهّلوا . هم أيضا يستدرجون ماضيها البعيد . حكاياتها القديمة .. أسرارها العجيبة .. يستبيحونها في أسئلة كالعشق .. يريدون أن تكون لهم وشائج بها .. حتّى لا تحفرهم غربتهم عميقا .. من أجل خلاص حاسم مع كلّ الفوات والضّيم ومنابت القهر في صدورهم .. هكذا اجتذبني خلفه مرّة أخرى .. كما لو أنّني صلصاله الّذي طوّعه بين أصابعه وهو طفل وشكّل منه مدنا وبحارا وأنهارا واختار إحداها .. لعلّها الحمّامات أخيرا وهو يستدرج الطّين السّخن إليه خلسة عن أمّه ويقيم بنايات عالية وقبابا وأقواسا وأزقّة وأنهجا وشوارع .. ومسالك سرّية وسقيفة بعد أخرى وسطوحا مشبعة بالياسمين والفلّ والخزامى والحبق.بين أحلام طفل وتوقّعاته ها هو يقودني إلى حبيبته الأولى ويهبني بعض حبره حتّى ألج الورق العبق برائحة الحلفاء في هذه الرّبوع البكر ويحوّلني إلى أسير .. قد تكفي إشارة واحدة منه حتّى أقتفي أثره .. بعد أن استنزفته طويلا ها هو يثأر منّي ويحدفني معه في مدينة كنت أعبرها في دهشة وأنا في طريقي إلى العاصمة وأواعدها دون أن أفي بهذا اللّقاء .. الآن تحتّم عليّ البقاء فيها لمدّة قد تطول أو تقصر مع بطلي .. لعلّه يطردني منها إن اكتشف أمري وأنا أتلصّص عليه وأسطو على أسراره وخفايا الآخرين ..









فصل ترهّل الماضي :ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كمن يغرف من قاع آسن بكيت ...
بكيت تفاصيل وشائج نقمت عليها وأنا طفل وحاولت محوها وأنا شابّ . هكذا تحرّقت كمدا على آخرين كانوا هنا . أمضيت معهم سنوات حارقة حتّى تحوّلت وجوههم إلى فحم وفجأة غابوا جميعا . دمعت مطوّلا لأنّ لا أحد سينتظر عودتي يوما ما . هذا أبشع إحساس تمكّن منّي في تلك اللّيلة الّتي نيّبتني وأنا أتأهّب للسّفر حتّى ألتقي بليلى الوافي بعد غياب طويل .






يتبع


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حيزي

محمد حيزي


ذكر
المواضيع والمشاركات : 9
الجنسية : تونسيّة
العمل/الترفيه : أستاذ
تاريخ التسجيل : 27/09/2010

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: رد: حرير وجد   حرير وجد Uhh1028/9/2010, 3:07 am




بعد أسابيع ثقيلة كالرّصاص بين تلك الجدران حدفوني إلى الخارج بعد أن عثروا على العارم الّتي اعترفت بالجرم . هكذا ظهرت فجأة بعد غيبة قصيرة واعترفت بأنّها القاتلة رغم استسلامي لذلك البرد المبرّح الّذي كان ينفلت من جسدي إلى صقيع أشدّ من حولي . صقيع يحوّم من منابت طفولتي القارسة إلى تجلّيات روحي المنهوبة الّتي اكتفت بما تبقّى لها في تواطئي مع كلّ قبو ألجه راضيا بمصيري فيه كما لو أنّني أعيش نفس المحو وما شابهه من هتك وذبح لوجودي في يباب لا خلاص لي منه . مع دوني القذيع الّذي يعفّرني باغتتني لحظات عجيبة . ماذا لو أبعث مرّة أخرى ؟ أليست سنّ الأربعين مربكة جدّا ويمكن أن أحدف منها خطوات لم أطلقها بعد ؟ خطوات تمتلئ بلهفة نبيّ يتمنّى حفرا في ضآلة يتم لا أمرّ منه ولا أبشع . أمدّها حتّى أسلب من المسخ الّذي لا أراه ملامح طهر تكون سطوتي على خرابي وإحساسي بضياع وجهي في عدّة وجوه تتراكم دائما حولي ولا تشكّل لي مسلكا حتّى أندفع نائيا إلى ملاذ قد يسحبني من يأسي وقلّة حيلتي . بدا لي الخطو حالة مسّ قد تبعثني آخر لا يشبهني . خطوات قد تكون عسيرة ممكنة تحت مطر اشتهيته يتهالك كالقرب عليّ ويقشّرني من أغبرتي وينتزع منّي جهمتي الّتي حاصرتني حتّى أدركني العمى . هو بعث من خواء ومنافذ أخرى لعجني كطين عصيّ على الإنفلاق يتمسّك بعطشه ومواته رغم حرارة الماء على عمق لا يشبهني فلا انفجر وساب ولا تصخّر فأغرق في بوري . لرائحة التّراب العاطش أمنية كالمطر . وحده قد يهدّ هذا اليباس من حولي فتتحطّم قيودي وأقوى على مواجهتي وأرمي خطواتي كالجذور لتكون ماضيّ وأنا أتقدّم إلى الأمام وأنحت لي وجها أنتزع كلّ لطخة فيه حتّى يصفو شيئا شيئا فأدركه وأتلمّسه وأقول هذا وجهي الّذي أروم من سنوات خلت . ها أنا أعثر عليه أخيرا كي أنسى بعد أن محوت ذاكرتي في اللّطخات الّتي ألقيتها خلفي كجثث نتنة . هكذا أردت أن أكون وأنا أحسّ كما لم أحسّ من قبل أنّ صقيعي يتحوّل إلى دفء غامر ويحوّل برد الجدار إلى حرارة لا عهد لي بها . هذا القبو ذو الغرف الضّيّقة والأصوات الغاضبة يترمّل في خيبتي الّتي أشعر بها غريبة عنّي ولا يمكن أن أتحمّل شراستها . هي أيضا كتلك الجثث الّتي صارت خاطرا عابرا لا يعنيني . هو الخطو الأبديّ إلى الأمام والتّطاول على الوعر والمسالك الصّعبة وكدمات قليلة مازالت بعد تلتئم كي تبرأ فلا تعيق لهفتي إلى المضيّ بعيدا جدّا . هي الذّاكرة في سعيها إلى الخلاص من جريرة الآخرين . تخرجني من منقعتهم رويدا رويدا وتصير بيضاء كورقي وهو يستقبل حبري حتّى يحفر لي مصيرا أبقى وأبلغ . ها هو يكتمل . ذلك الّذي دلقته في قبوي على بياض نواياي يترصّدني ويستفزّني . كنت لم أنتبه إليه في حينه . ظلّ مهملا كفكرة سائبة ولعلّ تلك الرّطوبة تمكّنت منه ولا أصابع متلهّفة بلغته بعد . نزوة حبر وورق تماما كحلم مرّ دون أن أمسكه وأتملاّه لحين مربك . كيف انفلت منّي ولا أستعيده إلاّ الآن فقط ؟ ماذا حصل وأنا ألجه وأهمله ؟ هل كنت مفجوعا وأنا أطارد روحي المكلومة دون جدوى وأذوي مع جسد كرهته وصار نقمتي وغيابي الموحل خلفها ؟ الرّوح ظلّت مستعصيّة وكلّما توقّعت أنّني أقترب منها حتّى لا أشقى أدبرت أكثر وطوّحت بي في منفى سؤالي وريبتي . هكذا تسلّل حلمي الّذي بلغته دون أن أعيه ممكنا ولم أتفطّن إلى مضيّه إليها للحظات لا تمضغ ولا تستعاد . كانت هناك ولم أنتبه إليها وهي تغادره بعد حميميّة بالغة . الآن فقط أستطيع أن أسترجع حالة غيابي القصيرة فيه . كما لو أننّي أعيشه وأهيم فيه كضالّ بلغ السّبيل بعد تطواف مرير وعطش بالغ :
( أ )
( الحلم ..؟ ما ألذّ بلوغ أقاصيه في لحظة عامرة خصبة كإندلاق نبيّ في سماء زرقاء صافية لا غيم فيها ولا غبار ... أنا تلك النّطفة وهي تكتمل في حرارة الطّين بينهما وتنهمك في حميميّة بعثي كما لو أنّني لم ألج هذه الدّنيا . ها هو وجهه . يمكن لدفقة في حجم حبّة قمح أن تخرج من ضيق التّربة الحارّة وتلج أخرى ممتلئة بالحياة حتّى تفلق الأرض وتنمو وتبلغ الفضاء الفسيح وتكبر إلى أن تتبدّى حافلة بسحر خرافيّ لا مثيل له ... أكاد أراه وهو يتهالك عليها في لهاث . أكاد أدفع أصابعي من رحمها وأتلمّس فمه وخدّيه وجبينه وأنفه وأحفر كلّ ذلك في ذاكرة مازالت بعد بيضاء لم تلطّخ . هو تجلّ عجيب أدركته وبلغت منه رؤية غريبة لا تتوقّع والرّوح تنأى في خدر تملّكني وصار كالغياب في مسارب ملوّنة بالأخضر المريب . إنّه هو وليس سواه . يبدو شبيها بمصطفى الضّاوي وإن سابت الملامح لحظة بعد أخرى ولم تلتئم إلاّ بعد فوات وأنا أرتمي في أمّي حتّى أكون . نطفة تنوي أن تتحوّل إلى سنبلة شامخة في أرض خلاء لا وشيجة لها بذلك الطّين الّذي صار باردا بعد أن خمدت نزوتهما وتبدّدت وبلغت بورها . من توقّعته أبي تحوّل إلى سطح أبيض لا حبر فيه ولا خدوش إلاّ لطخة رأيتها تقترب من هامش الورقة وتحاول جاهدة أن ترسم ملامح ما لتلك التّربة الّتي زحف نحوها صقيع شديد حتّى يخرمها ... ) .

تهالكت في الحلم السّائب وأنا أخطو مع ممرّ السّجن . كنت أقوى على فكّ طلسمه لو غرقت فيه عميقا ليلتها . كنت سأتمكّن منه لو أفلحت في مطاردة روحي وهتكت جسدي بشكل أبلغ وحفرته إلى أقاصي وجيعتي فيه . كان يمكن أن أمحوه في لحظة مارقة عن كلّ ما حولي وأصير دفقة من نور تمضي فجأة وتنتثر في ألق على مرمى منّي . يااااا ... كم كان ذلك الحلم حالة تجلّ لا تعاد وأنا أستبيح ما يشبه الغيب وأندلق في فتنة سحريّة عميقة لا تتوقّع . كما لو أنّني حفنة برق تحطّ على كفّي وتسيب في ممرّات مضيئة لم يلجها أحد . كنت وأنا أبتعد لأبلغ ذلك الباب كمن خلّف موته وراءه . رغبة جارفة تتملّكني وأنا أخطو . قد أتجلّى في حلمي مرّة أخرى وأبلغ ما استعصى وأقوى على اكتشاف تلك الملامح وأستطيع تمييزها على وجه مصطفى الضّاوي . ذلك الرّجل الّذي مازال يقتفيني رغما عنّي ويشدّني إليه يوما بعد آخر ويستحوذ على اهتمامي وإن كنت أكنّ إليه بغضاء لم تحسم بعد ولم تتشكّل كما أريد حتّى يمحى وأنتهي منه ولا أعود إليه :
( ب )
( ... كم هو الحلم مربك في لحظاته الأخيرة ونحن نستعيد تفاصيله ... كيف لي أن لا أتمسّك بذلك الوهم كالغريق الّذي يستدرج أيّ بصيص للنّجاة ؟ ما به مصطفى الضّاوي ؟ أليس شبيها بغيره ممّن ابتلعوا ما أمكن من لذائذ هذه الدّنيا وترك للآخرين شيئا من الفتات في غفلة منه ؟ لماذا أكره أن يكون أبي هذا الّذي يستدرجني خلفه ؟ أليس هو الوحيد الّذي تبدّى لي سائبا ويمكن أن أجمع ملامحه شيئا فشيئا حتّى أعثر عليه وأكتفي به ؟ كما لو أنّني أراه الآن من بلّور نافذة تتهالك عليها قرب الماء فلا يتراءى جيّدا . تكاد يدي تمتدّ إلى البلّور وتزيل طبقة من الأبخرة الّتي انبعثت من جدار خرب يحاصرني ولا يترك لي فرصة للخروج . الباب مغلق بمراتيج لا عدد لها ولا يمكن تحطيم ذلك الخشب القديم السّميك والنّافذة قضبان شرس أشبعه الصّدأ فلا أقوى على فكّه . هو هناك على خطوات منّي يتملاّني ويحاول المضيّ نحوي . يداه لا تبلغان البلّور والمطر مزاريب شتّى مندلقة تفصلنا لتنعدم الرّؤية تماما . نحن معا كإندلاق الماء من أعلى وجزء لا يتجزّأ منه ولا يمكن مهما بلغت قوّة إبصارنا تحديد من نكون . لساعات طويلة ونحن نهذي معا في لهفة أخيرة . كلانا ينتظر توقّف المطر للحظة قصيرة حتّى نلتقي وبيننا بلّور شروخه عديدة وكسوره أخاديد بيّنة دون أن تسقط منه ولو قطعة واحدة . كلّما ضربته بقبضتي إلاّ وعادت نحوي . كما لو أنّه قدّ من صخر لا يتأذّى أبدا ... )

وجدت نفسي أتنفّس هواء مدينتي من جديد . كان كعادته هواء لزجا يخلّف قروحا كلّما تسلّل إلى رئتيّ . لم أحتمله رغم إحساسي برحابة الفضاء من حولي . تمنّيت لو ولجت مدينة أخرى حتّى أشعر بأمان لا رغبة لي فيه . كان ذلك مجرّد خاطر . خطوت مبتعدا خائفا من ذلك الباب الحديديّ الّذي تركته من لحظات خلفي . كان صريره موجعا باعثا على رهبة شديدة . كما لو أنّ منشارا ما يحزّ في صمت متواطئ عظاما بشريّة . هكذا استمرّ صريره مدوّيّا وأنا أحثّ الخطى إلى أن غبت مع منعطفين . لحظتها تنفّست مرّة أخرى وأنا أتهالك على كرسيّ . طلبت من نادل المقهى قارورة ماء وفنجان بنّ . ظلّ دهشا وهو يراني أشرب محتوى القارورة دفعة واحدة . بدا له ظمئي غريبا كمن تاه في صحراء وكاد يردى . جذبت أكثر من نفس عميق حتّى أتيت على نصف السّيجارة في ثوان . بدأ دواري يخفّ شيئا فشيئا إلى أن زال . رشفات البنّ تطعّمتها على مضض . كان مذاقها حادّا مؤلما لا يستجيب لطعم التّبغ المرن الّذي يهب أعصابي حالات انتشاء متتابعة . يبدو البنّ من ذلك النّوع المهرّب خلسة من الجزائر . عادة ما يستقدم المهرّبون بخس الثّمن منه حتّى يحقّقوا أرباحا طائلة من ورائه . هم لا يهتمّون لروّاد المقاهي مثلي بقدر اهتمامهم للمال الّذي سيجنونه . لماذا أهتمّ للبنّ المهرّب والوطنيّ ؟ أبدو متعبا جدّا وبي لهفة للنّوم . عندما يتملّكني التّعب أغرق في شيء من الهذيان . أضيع في متاهات غريبة وأهتمّ لتفاهات هذه المدينة . كأن أحدّد رداءة البنّ مثلا .
النّوم كان يترصّدني . من ليال طويلة لم أخلد إليه . تركت المقهى وقصدت نزلا شعبيّا صغيرا عادة ما يأتيه الجزائريّون . يقضون فيه ليلة أو ليلتين ثمّ يواصلون رحلتهم نحو الحدود برّا . يهرّبون معهم ما خفّ وزنه وغلا ثمنه . التّونسي والجزائري مهرّبان دائمان . يحسنان كسب المال في ذكاء بالغ . يخترعان من الحيل أجداها . كلّما كشفت حيلة ما إلاّ واخترعوا أخرى . هناك من صار ثريّا يملك الكثير خلال سنة أو أكثر وهناك من سقط من عليائه وتحوّلت أيّام عزّه إلى مذلّة . ذلك هو التّهريب . المهرّبون فقط هم الّذين يمحون الحدود متى يشاؤون . لا أحد يقوى على منعهم . سوق قائمة رغم صرامة حرس الحدود . يتبدّى اللّين لفترة منهم ثمّ ينقلبون فجأة . شعبان متربّصان للكسب . أموال طائلة تقتفيها الأيدي ولا أحد يرفض نعمة جاره . السّاسة يفرضون القوانين والمهرّبون يمطّطونها حسب منافعهم . ها أنا أعود مرّة أخرى للهذيان . كما لو أنّ أمر المهرّبين يعنيني . ها هو العراق يباغتني أيضا . ماذا حصل لي وأنا أستعيد ما لا أنوي ؟ لعلّه ذلك المذياع الصّغير الّذي صاحبني في زنزانتي طيلة الأيّام الماضية ؟ هو الوحيد الّذي انفرد بي حتّى لا أشعر بوحدتي . كنت حزينا مهملا وأنا لا أقوى على فعل أيّ شيء . رغم ما أحمله من مرارات لا عدّ لها كنت أشعر بيتم بغيض . لو كانت ذراعي طويلة لمضيت إلى هناك وهلكت مع أهلي دون أن أهتمّ . المذياع الصّغير الّذي كان معي خلسة تدبّروا أمره وأخذوه منّي ثمّ أعادوه إليّ وأنا بصدد الخروج . بطّاريّته ماتت بعد أن ركنوه طيلة مدّة إيقافي . لمّا تسلّلت مبتعدا أذكر أنّني هشّمته على جدار . تهالكت على فراش ونمت كقتيل . لا أدري كم مضى عليّ وأنا ملقى كما اتّفق . أفقت متعبا . نفس الدّوار الحادّ باغتني من جديد وأطبق عليّ . اندفعت إلى حنفيّة الغرفة وألقيت رأسي تحت الماء لحين . شعرت بغياب عابر والماء يتسلّل دافئا إلى صدري . نزعت ثيابي وولجت حمّاما مهملا لم يتعهّدوه من شهور . كما لو أنّ لا أحد يستعمله . بقيت تحت الماء لأكثر من ساعة حتّى انتشيت .
مساء قرّرت العودة إلى الحوش . بدا لي أنّ اللّيل أرحم . لن يراني أحد وأنا أصعد عامود الكهرباء ثمّ أقفز من أعلى إلى الدّاخل كما كنت أفعل وأنا طفل . هناك رهبة ما كانت تحفر كوّة داخلي . كوّة تتراكم فيها سنواتي البعيدة في تلك الغرف المغلقة على شقيقتيّ حليمة وربح وأمّي العارم . تراءى لي عبد الرّحمان العامريّ واقفا هناك كمارد أسطوريّ ينتظر عودتي حتّى يفتك بي . حربنا لم تنته طيلة السّنوات الماضيّة . كلّما هدأت ثارت من جديد . إن تمكّن منّي مرّة ترصّدته لمرّات . كان يسعى دائما لهدنة لكنّها عادة ما تكون قصيرة العمر . سرعان ما أشعل فتيل الحرب إن رأيت منه ما يغضبني . كنت أقف إلى جانب شقيقتيّ إن أساء لهما كما أتحوّل إلى أعمى لا يرى إن عنّف أمّي . أذيقه الأمرّين وأنا أجد من الحيل الخبيثة ما لا يطرأ له على بال رغم ضخامة جسمه وعضلاته المفتولة ورأسه الّتي تشبه براميل الخربة أين أجتمع مع شعبي الصّغير من ماسحي الأحذيّة . رأسه هذه تثير مخاوف من يراه . تبدو مرعبة لحظة غيظه ووجهه يأخذ أشكالا تبعث على الرّهبة والقرف معا . بدت لي ضحكات الجيران عاليّة مدوّية كسياط تتردّد في كلّ ركن وتتحفّز نحوي لتدمي ظهري . كنت أخطو متخفّيا في الزّقاق كلصّ . ذلك الصّمت الكريه كان يعشّش في النّوافذ والأبواب ويغرف أكثر من رائحة وسخة ويلقي بها نحو كلّ مارّ ليليّ . بعد مسافة بلغت فيلا عامر الوافي . وقفت أمامها لحين مربك . كدت أتسوّر جدارها وأمضي إلى داخلها . هنا كانت تسكن ليلى من سنوات مضت . من تلك العليّة كانت تلوّح لي بيدها الصّغيرة . كنّا نتواعد بالأصابع حتّى نحدّد ساعة لقائنا . تحسّست رسالتها في جيبي ومضيت . اقتربت من الحوش . جلت ببصري مع امتداد الزّقاق الخالي . تسلّقت عامود الكهرباء كقطّ ووجدت نفسي بعد غيبة طويلة في نفس المكان الّذي ذبحني طيلة أعوام كاوية . هنا عاشت أمّي العارم سطوتها علينا كما شاءت وإن كانت ملاذنا ودفئنا كلّما ضيّق علينا عبد الرّحمان العامري الخناق وحاول إيذاءنا . ظلّت قطّة شرسة تقسو علينا وتواجه كلّ من يريد بنا شرّا . كانت نصف أمّ لنا . تغيب في شأنها عنّا كما لو أنّنا أغراب ثمّ تلتئم بنا في حميميّة مدهشة وتعوّضنا كلّ الدّفء الّذي هتكته طيلة ابتعادها . هكذا كانت العارم امرأة مشطورة بين عبد الرّحمان العامري وزائريه اللّيليين وبيننا . لا تدري من ترضي أو لمن تلتجئ إذا ضاقت واستبدّ بها هذا الحوش الّذي ملأها وأفرغها وحدفها أخيرا كقذارة إلى سجن المدينة الرّابض على أطراف قلبها المنهك .
هناك في تلك الغرفة ظلّت أختي حليمة تتهاوى إلى أن ذبلت كوردة . لم أتمكّن من نجدتها حتّى تقف من جديد وتلج دنيا أخرى . كنت صغيرا في هذا الحوش لا حول لي ولا قوّة . لمّا اشتدّ عودي وصرت قادرا على الحسم كان عبد الرّحمان العامري أيّامها أشدّ منّي وأقوى ولا أحد يستطيع مواجهته . الكلّ هنا كان يهابه . الزّقاق ظلّ كعجينة بين أصابعه سنة بعد أخرى . الوحيد الّذي تطاول عليه كان عامر الوافي . بعد أن أهانه أمام الجميع غاب لمدّة طويلة عن العيون ثمّ باع تلك الفيلا وغادر إلى العاصمة . كان هذا آخر عهد لي بعامر الوافي وليلى وأمّها مريم . فجأة اختفوا ولم يتركوا خلفهم إلاّ أسئلة عديدة متلهّفة لأجوبة سائبة على أكثر من فم حاول استجلاء حقائق عدّة واجتهد ولم يجزم . هكذا عاشت عائلة عامر الوافي بيننا لسنوات عديدة وظلّت مغلقة حول نفسها وسط هالة من الأسرار والشّكوك دون أن يتمكّن الجيران من اختراق تلك الجدران العاليّة واكتشاف ما يجري خلفها من وقائع خفيّة . ظلّت لغزا ولهفة الكثيرين لكن دون جدوى . رغم المحاولات الكثيرة الّتي بذلت فإنّ الحيل والتّدابير ظلّت قاصرة . أنا الوحيد الّذي استطاع الولوج إلى هناك لكن لم أكتشف ما يثير . فقط دهشت وأنا أجوب بعينيّ أثاثها وما تحتويه تلك المكتبة المتراميّة من كتب ورسومات وتحف .
بقيت للهزيع الأخير من اللّيل وأنا جالس وسط الحوش أستعيد سنوات متراكمة تشبه الموت وإن تخلّلته ليال نادرة مليئة بالحياة . لعلّني وأنا بصدد السّفر بعيدا عن هنا أحاول أن أمضغ لمرّة أخيرة كلّ ما مرّ بي . ما يشبه الوداع الأخير أحسسته يستفحل في الجدران المهملة . هناك كنت أمضي السّاعات في رسم فجوة شفتي أختي ربح بعد أن سقطت عليهما موسى ذلك المسنّ الّذي تعتعته الخمرة ليلتها . كنت حزينا لأجلها وأنا أطارد الدّود على الورق وأحاول جاهدا أن أمحوه . في ذلك الرّكن البغيض كان عبد الرّحمان العامري يمسك بقطّ صغير ويتّجه به نحوي . يدسّه في لحمي تحت ثوبي وهو يموء في توتّر وألم . ظلّت آثار مخالبه الصّغيرة أيّاما على جسمي . كان يقهقه والقطّ يغرز لحمي وأنا أصرخ وأصيح . هناك في الأعلى عند السّطح بعثر كلّ الصّناديق الّتي جمعتها وجعلتها بيوتا للحمام . كان يجذب تلك الفراخ الصّغيرة ويقتطع رؤوسها ويلقي بها إلى أسفل . لم يهتمّ لتوسّلي ورجائي . كم نقمت عليه سنواتها . ظلّ دائما يقع في مقالبي الصّغيرة . كنت الوحيد الّذي يخشاه . رغم صغري كنت واسع الحيلة معه . لمرّات لا تحصى أهنته أمام أمّي وتمكّنت منه وحوّلته إلى أحمق أمامهنّ . كنت أجد لذّة عاليّة وأنا أسخر منه وأطيح بأنفه إلى التّراب وألطّخ جبينه .
فتحت الغرف وولجتها واحدة واحدة . كانت دموعي تنتابني كلّما خرجت لألج أخرى . فجأة همدت وتهالكت في موت أبديّ . لن يرتفع صياح عبد الرّحمان العامري في وجه أمّي بعد الآن ولن تبلغ كلماته البذيئة جيراننا الغارقين في نومهم . لن تلوذ أختي ربح بغرفتها وتغلق دوننا الباب . لن يحدث سرير ربح ذلك الصّرير القذيع ويخدشني وأنا أطلّ عليها من ثقب الباب لأكتشف ما يحصل . سوف لن يتمدّد عبد الرّحمان العامري كثعبان في فسحة الحوش وينهمك في شخيره المرتفع ولا يتركني أغمض جفنيّ وأنام . كلّ تلك التّفاصيل البعيدة انمحت وتهالكت نهائيّا ولم يتبقّ منها إلاّ هذه الجدران الخائبة الّتي ستتحوّل مع الأيّام القادمة إلى مهجورة تتزاكم فيها أرواح عائلتي وأولئك الأغراب الّذين ظلّوا لسنوات يلجون هذه الغرف العطنة ويمضون مع آخر اللّيل . هو الوحيد الّذي لم يلج غرفة من هذه الغرف ولم تطأ قدمه عتبة الحوش . كلّما احتاج لرائحة امرأة أخرى غير زوجته تسلّل ليلا كلصّ وامتطى سيّارته وجاب شوارع وأنهج وأزقّته المدينة . له أكثر من خليلة وإن ملّ أجسادهنّ . دائما ما يتصيّد جسدا لم يلجه . ليلتها عثر على أمّي . فصل الخريف يعدّ أيّامه الأخيرة وبرد الشّتاء وصقيعه الحادّ يراودان ما تبقّى من عواصف انهارت بعد واستسلمت للمطر والثّلج . الأشجار العارية كانت تشبهها في تلك اللّيلة العصيبة والدّفء كان مرامها تحت ذلك المصباح الشّارعيّ . توقّف قريبا منها وفتح باب سيّارته ودعاها للمضيّ معه . لم ترفض ولم تبد انزعاجا . صعدت وجلست حذوه في صمت . انطلق مع الشّارع وابتسامة خفيفة تتشكّل على شفتيه . تلك هي العارم أمّي . هكذا روت لي تفاصيل تلك اللّيلة بعد أن تعتعها السّكر . ما تبقّى من تفاصيل جابتها كما لو أنّ مغامرتها ذكرى لا تريد نسيانها مع رجل غريب فاجأها ذات ليلة باردة جدّا . ذلك هو الحلم الّذي فاض وأنا مجرّد نطفة تنحدف فيها حتّى أكون :
( ت )
( المطر بعد تندلق في جنون وحلمي يتمطّط من وراء البلّور الّذي ازداد قسوة وجبروتا ولم يتهشّم وأنا أعضّ سطحه بأضافري وأشرخ ما أمكن فيه بأسناني . الرّجل الّذي يتبدّى أبي يحاول بكلّ قواه فكّ القضبان دون طائل . أراه يصرخ ويصيح ويدفع يديه نحوي ويستجديني تحطيم البلّور بيننا . ينزع سترته ويحوّلها إلى مطريّة حتّى يمنع الماء من السّقوط على البلّور فيراني . تتبدّى النّافذة أعلى منه ولا يستطيع بلوغ علوّها وبطنه تلتصق بالقضبان وتترك فوهة أعلاه فلا يتمكّن من سدّها . العياء يعيقه عن بذل محاولات أخرى . إنّه يترنّح ويفقد توازنه ويتهالك على الطّين الحارّ كلّ مرّة . يقف بعد لأي ولطخة من الوحل تغلّف وجهه . يدفع أصابعه ليزيل الوحل . تتشكّل على ملامحه أخاديد موحلة . تتوقّف المطر الغزيرة وتتحوّل إلى رذاذ خفيف . لهفتي تكبر وأنا أتملّى وجهه الّذي يتبدّى لحظة بعد أخرى . أكاد أنطلق إلى أحضانه وأرتمي فيها . إنّها تكفّ نهائيّا عن الهطول ولم تبق منها إلاّ رائحة عليلة وحرارة هشّة . الآن سأراه ولن تمنعني المطر . دقّقت النّظر فيه دهشا . لم أر إلاّ لطخة الوحل وهي تخفي وجهه عنّي . لا أكثر من موات يستفحل فيه الطّين ويمحو قسماته . اقترب منّي حتّى يدركني ولم يتمكّن . أنفاسه كانت تدفع بخارا كثيفا من وراء الوحل العالق ... ) .

كنت كمن يقتلع من أصله ويلقى إلى ما يشبه الصّدفة . صدفة الأمكنة الّتي أجهلها ولا أعيها . أن أعيش كلّ هذه السّنوات هنا وأجد نفسي مدفوعا للهرب فجأة دون أن أسعى إليه بنفسي فذلك يعني أنّني لا أملك قدرة القرار . عمرا وأنا أشتدّ كراهيّة لهذا الحوش البغيض وأتمنّى أن تدوسه أقدام عملاقة وتحوّله إلى طحين من الاسمنت والرّمل والحجر حتّى أحسّ بذلك المحو الخارق لكلّ ما يجرحني ويهتك شعوري بالرّفعة والأنفة لكن ظلّ ذلك حلما لطفل فتح عينيه على ما لا يرضى . كان أطفال الزّقاق ينعتونني ببذاءات عديدة ولا أجد ردّا إلاّ الانفراد بهم واحدا واحدا والانتقام منهم إلى أن تمكّنت بعد شهور من جمع عصابة حولي . كلّ ماسحي أحذية المدينة صاروا بعد مكابدة تحت إمرتي . صرت سيّدهم الّذي يخشونه ويقرؤون له حسابا . كنت كلّما اجتمعت بهم في خربة البراميل وعلوتهم كملك شعرت أنّني أستطيع حفر مصيري وحدي دون حاجة لعائلتي . أوامري ظلّت لسنوات تجاب دون تردّد أو خوف . كان عامر الوافي من جملة ضحاياي الّذين لقّنتهم درسا . كان بعد أن دفعني من صدري على مرأى من ليلى ابنته وأنا أخطو ملتصقا بها تحت مطريّتها وألقى بي في بركة ذلك المساء الممطر شعرت أنّني منبوذ ولا أحد في الزّقاق يحبّني أو يراني كبقيّة الأطفال الآخرين . بدا لي أنّني دونهم قيمة وتوقّعت أنّهم يوصونهم بعدم الاقتراب منّي واللّعب معي . ذلك كان أبشع إحساس عشته . إلى الآن أشعر به كإبر تنهش لحمي . ظللنا لأيّام نترصّده إلى أن باغتناه ليلا وهو عائد إلى الفيلا متعثّرا . كان السّكر باد عليه . فجأة شددت كيسا إلى رأسه إلى أن بلغ حدود صدره وأحكمنا وثاقه بحبل . حاول الخلاص منّا ولم يتمكّن . صاح فلم ينجده أحد . قدناه إلى الخربة . هناك فتحت الكيس بموسى من الأعلى إلى أن ظهر وجهه . لم يصدّق الأمر وهو يراني أقف قبالته وقد اشتدّ غضبي وثارت ثائرتي . أهنته ليلتها كما ذلّني مساءها أمام عيني ليلى إلى أن بلغت منه شبعي ثمّ انحدفت نحوه سيقاننا ركلا وهو يجري في لهاث وتعثّر إلى أن اختفى . بعد ذلك صار يهرب بعينيه عنّي كلّما رآني . ينتابه حرج بالغ وهو يهوّم في الزّقاق متوقّعا قدوم أصدقائي الصّغار فجأة . يسرع الخطو نحو وجهته دون أن يلتفت خلفه . سرعان ما يغيب وأنا أتابعه في كبرياء كي أذلّه أكثر . ليلى دائما ما أراها تقف بيننا . كما لو أنّها تلومني على صنيعي مع أبيها.تترجّاني حتّى لا أتعرّض له مرّة أخرى. تستدرجني إلى هدنة معه . ترى أنّني تطاولت عليه بالقدر الكافي .
أنا الآن راحل . سأترك هذا الحوش والحيّ برمّته . قد أجد لي أهلا أو أسرة ما في أرض أخرى غير هذه الأرض . كلّ ما مضى عليّ هنا سيمحى دون رجعة . ما يملأني أخيرا أنّني واجهت وقاومت وصفعت من صفعني وذللت كلّ من أهانني ولم أطأطئ رأسي لأحد إلاّ لأمّي . الوحيدة الّتي لم أجرحها أو أشتمها هي العارم . بدت لي دائما تلك الأرض البور الّتي انفلقت وقذفتني إلى هذه الدّنيا وإن حاولت أن تلئم ما انكسر داخلي لكنّها لم تبلغ ذلك وأنا أرى يأسها يختلط بدموعها ويتهالك عند قدميها لينبت ما يشبه الشّوك . حيلتها وهي تشير عليّ بالذّهاب إلى مصطفى الضّاوي لم تنفع . كانت مجرّد توقّعات خائبة . ذلك الرّجل المتحذلق لا يمكن أن يكون أبي . لو كان كذلك لتبرّأت منه . هو لا أكثر من حشرة بغيضة في تلك العاصمة وإن بدا عليه الجاه والنّعمة . مثله في عدد شعر الرّأس وخيباتهم أشدّ وطأة من ذلك البهرج الفارغ . تماما كالسّوس الّذي ينخر في تواطؤ بشع عظام هذا البلد ويدفعه إلى هاوية . إنّهم زمرة عجيبة تستفحل يوما بعد آخر ويتناسلون كلّ يوم دون أن يتوقّفوا أو يواجههم الآخرون الغارقون في صمتهم .
بكيت ليلتها طويلا . كنت كمن يلقى بعيدا . تماما كزبالة . لا أحد سيقف دوني والباب ويتمسّك ببقائي . كنت كلّما سافرت إلاّ وعدت بعد غيبة إلى هذا الحوش المنتن . ظلّت وشيجتي به قائمة لسنوات . هناك أمّ تنتظرني حتّى أعود . الآن لن ينتظرني أحد إلاّ هذا المواء الّذي تطلقه قطط جائعة في الزّقاق ولم تجد ما تأكل . إلاّ هذا اليتم المعشّش في كوى وأركان الحوش . لو كانوا هنا لما غرقت في هذه الجهمة الحادّة . كنت سأمضي دون أوبة . سأحسّ وأنا أبتعد أنّ هناك أهل لا أرغب فيهم خلفي . هذا لن يهوي بي إلى كلّ هذا الوجع الّذي يصرخ داخلي في هذه اللّحظة المربكة .
تسوّرت ثمّ بلغت السّطح وجلست . هنا كانت تتشكّل كلّ مغامراتي الصّغيرة وتتبدّى بعبثها دون خوف من نتائجها وعواقبها . ردّة أفعالي كانت تطبخ في صمت قد يدوم لحظة أو ساعة أو يوما . ظلّ عبد الرّحمان العامري ذلك الغول الّذي لا يسقط إلاّ بعد دهاء وحيلة . أمضى سنوات وهو يرهبني . كلّما رأى ساقيّ تتدلّيان إلى أسفل وأنا غائب في الصّمت إلاّ وتوقّع ما لا يطرأ له على بال . كان يحذّر أمّي من مغبّة ما سأفعل . كما لو أنّه يترجّاها حتّى لا أقوم بحماقة ما .
لا أدري كم بقيت جالسا هناك . كلّ تفاصيل ذلك الماضي البعيد اندفعت نحوي كنمل كبير الحجم كثير . يعضّني ويترك في كلّ موقع على جسمي آثارا كالقروح . كانت لهفتي للرّحيل تكبر كما كان إحساسي بالدّون بشعا جدّا . هذه المرّة لن ينتظرني أحد . ذلك الخاطر كان منشارا يحزّ قلبي شيئا فشيئا إلى أن ابتعدت وتركت كلّ ذكرياتي المرّة خلفي دون أن ألتفت . فقط ظلّت ليلى تدفع يديها نحوي وتجذبني إليها كمغناطيس وتقشّرني كلّما خطوت إلى الأمام وتلقي ببقايا عالقة بي فأشعر بها تتهالك ورائي محدثة ضجّة ما بعيدا . إنّها تفتكّني من هذه المدينة إلى أخرى . روت لي الكثير عنها حتّى صرت أجهلها . لم تراها ليست كغيرها ؟ الحمّامات مدينة ضاربة في التّاريخ وهذا عاديّ . كلّ مدننا السّاحليّة المشرّعة على البحر مشبعة بالقديم ويكمن فيها أسر خالص ولها تاريخ ملفت . من جلد ثور علّيسة الّذي حوّلته إلى شريط لا نهاية له في عيني ملك هام بها وتمنّى فتنة جسدها وهو يخطو على أرض رحبة مترامية الأطراف إلى الحنايا الّتي قامت وقطعت مسافة طويلة حتّى تحمل ماء زغوان العذب إلى ثغر حبيبة أراد أبوها الباي توريط عاشقها في مهمّة مستحيلة ولم تفلح محاولته معه وهو يفاجأ بالماء يقبل في هسيس على شبر من نافذة ليلى إلى أيّامنا هذه . كلّ هذا الوطن خصب بالجمال والخرافات والحكايات . جدّاتنا يروين ما لا يطرأ على بال . خيالهنّ بليغ وحافل بالعجيب وإن سهونا عن ذلك . هي ليست ليلى الوافي . هي ليلى بنت الباي . كلتاهما عاشقتان وإن جمعتهما هذه المدينة معا . بينهما عشرات السّنين فقط . الزّرقة فيهما ظلّت هبة البحر الّذي يحضن مدينة الحمّامات . هي الحكايات الّتي بقيت واختلفت من فم إلى آخر وإن بلغت ليلى مسالك غريبة أخرى لا تصدّق في رسالتها رغم ثقتها وهي تحبّرها لي في تكثيف ساحر وتملأني بولوج كالخرافة إلى أسرار شتّى في مدينتها الّتي عشقها عامر الوافي وزوجته مريم بعد عطلة أمضياها فيها وانتقلا إليها بعد مرارة قصيرة العمر في العاصمة مع ابنتهما . ذلك أمر آخر أرجأته إلى حين لقائنا . هي تدرك لهفة أهل الزّقاق على تتبّع أسرار عائلة عامر الوافي رغم رحيلها من سنوات عن ذلك الحيّ . كما لو أنّها ترغّبني في اكتشاف حقائق لا عدّ لها وتعدني برواء عميق بعد عطش طال أمده وظلّ حبيس الأسئلة الّتي تقادمت ولم تهمد بعد .
الآن فقط شعرت أنّ المضيّ إلى أبعد ما أستطيع قد يخفّف وطأة الدّون الّتي تلبّستني عميقا ونالت منّي . كان هناك ما يشبه المقصّ الصّدئ يتتبّعني ويتعقّب وجهتي ويجتزّ ما هو بال فيّ ويلقي به حولي كما اتّفق إلى أن تعرّيت تماما في ذلك اللّهاب اللّيليّ السّافر . تخفّيت حتّى لا يكتشفني أحد إلى أن بلغت محطّة المدينة . هناك تواطأت مع تحيّات الصّباح البليدة الّتي لا تحمل حرارة اللّقاء بقدر ما تعني واجبا ثقيلا يخفي خلفه أكثر النّوايا سوءا ...



يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تحسين الأشرم

تحسين الأشرم


ذكر
المواضيع والمشاركات : 765
الجنسية : سوري
تاريخ التسجيل : 12/05/2008

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: رد: حرير وجد   حرير وجد Uhh1028/9/2010, 1:44 pm

الاستاذ محمد خيري تحية
مشكور على هذا الجهد
وننتظر منك التتمة

لك كل الود
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://kharbashat.ahlamontada.com
محمد حيزي

محمد حيزي


ذكر
المواضيع والمشاركات : 9
الجنسية : تونسيّة
العمل/الترفيه : أستاذ
تاريخ التسجيل : 27/09/2010

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: رد: حرير وجد   حرير وجد Uhh103/12/2010, 3:05 am




فصل لمدينة بنت الجيران : ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نزفت أخيرا ...
تشكّلت كتلة من الوحل الكسير إلى أن صرت عجينة بين أصابعي الدّامية وتسللّت من بينها في دفء لا عهد لي به وأنا أرسم لي ملامح أخرى في مكابدة غريبة محاولا أن أبدو لهفة لرجل لا أعرفه كما لو أنّه القطيعة وهي تحتقن بغضب عال لا أعيه لكنّني أحسّه مغمض العينين يسعى لفتحهما على مسالك أخرى لهذه الدّنيا . هذا أنا مرّة أخرى . كنطفة لبعث يعتمل نارا حارقة تهتك سنوات مضت كالوباء . تركنها في كوّة معتّمة وتستعر فيها حتّى تحوّلها إلى رماد . تذروها كما اتّفق ثمّ تطبق عليها كالموت . هكذا بدا لي الحسم بسيطا وأنا أنفلت من خلف تلك الجدران وأمضي دون وجل إلى لا شيء وبلا وجهة محدّدة وإن رمت مدينة الحمّامات لأنّ لي حبيبة هناك . هذا ما تقوله رسالتها وإن لامست أخرى تحمل اسمها . بين غريب يدعى عامر الوافي وباي هذه الأرض عشّاق عديدون قد أكون منهم ودفق من الماء أحسّه يسيب في سواقي شاهقة عند أكثر من نافذة وشرفة .










ليلى عامر الوافي ...
أكاد ألمس وجهها النّاعم المستدير كعبّاد الشّمس قبل اكتماله وهي تطلّ من نافذتها في العليّة وتلقي عليّ تحيّة كلّ يوم وتواعدني قبل نصف ساعة من دخولنا إلى المدرسة الثّانويّة . كذباتها العديدة وأعذارها الملوّنة بين شفتيها وهي توهم أمّها بضرورة خروجها أكاد أستعيدها الآن كعقد انفرطت حبّاته وسقطت على راحة يدي .
ياااا ... كم هي السّنوات مهملة إلى حدّ يشبه الحقد والسّخريّة معا . بعد كلّ هذا البين تصلني أخيرا رسالة منها لتشعل حرقة طفلين درسا معا وجلسا على نفس المقعد لأكثر من ستّة أعوام . فجأة يلقى خيط دقيق من بعيد ليصل بيننا . أليس هذا غريبا ...؟ أليس مضحكا في نفس الوقت ...؟ لعلّ هناك من يراه هجينا أو شيئا يشبه الكذب لرجل حصلت له من الوقائع ما يطحن الحجر الصّلد ... هذا ليس مهمّا ... ما يثير هو تفاصيل حكايتنا الصّغيرة ...
لم يكن عامر الوافي جارا عنيفا أو بغيضا بل كان رجلا مزاجيّا غارقا في صمت غريب . لم أره يوما يميل إلى الثّرثرة عندما يجلس أحيانا في مقهى الزّقاق . كان لا يتحدّث إلاّ في ما ندر . يتبدّى حزينا متحفّزا كما لو أنّه يسعى إلى القبض على خاطر ما أربكه . لحظات تيه تمضي بعيدا عن ذلك الرّصيف وهو يترشّف بنّه في بطء غريب . هناك ما يسوطه إلى أسرار تأبى الخنوع له وهو يجهد نفسه حتّى يلحق بانفراط ما ولم يدركه بعد . كنت دائما ما أراقبه من سطح حوشنا وأحاول أن أكتشف ما يدور في رأسه . أحسّه مغلقا لا يهتمّ لكلّ ما هو عاديّ عابر . ظلّ يهوّم دائما كما لو أنّ الزّقاق الّذي يعيش لا يعنيه . إنّه يضيع قصيّا ويفرط في غيابه عن الجميع . أحيانا لا ينتبه للنّادل وهو يقف أمامه منتظرا ردّه . يستفيق فجأة ويبخل في طلبه . يحرج كلّ من يراه لأنّه يتبدّى متطاوسا لا يهتمّ لتحيّة تلقى عليه . مرّات قليلة أراه فيها مبتسما . قلّما مازح أحدا على ذلك الرّصيف رغم نكتته الّتي تتردّد بعد ذلك وتدفع الكثيرين على الضّحك . كانت نكاته القليلة عسيرة عليّ وأنا أنصت إليها ورجلاي تتدلّيان من أعلى على حافّة السّطح . أذكر أنّني غرقت في الضّحك مرّة مع الآخرين . لم أشعر يوما أنّه قادر على أن يسعد أسرته الصّغيرة المكوّنة من زوجته مريم وابنته ليلى لكن الّذي أثارني فعلا هو مدى تعلّقه بتلك الفيلا الّتي تشبه قصرا صغيرا رغم راتبه القليل . أبدو مغفّلا مثل الآخرين إذا اعتبرت عامر الوافي رجلا أحسن ترتيب حياته ورسم هدفا ما في هذه الدّنيا . من المستحيل أن يقيم تلك الفيلا الفخمة لكونه يوفّر من راتبه ما يكفي كلّ شهر لبناء جدار أو حفر أساس لغرفة تلو الغرفة . إنّ حياته متشعّبة تغرق في دونيّة أولئك اللّصوص الصّغار الّذين يكتفون بالعظام وما تبقّى من لحم عسر نزعه . هذا ما قاله عنه عبد الرّحمان العامري ذات ليلة فاض فيها نبيذه وبلغ منه مبلغا شديدا . أكاد أذكر تلك اللّيلة بتفاصيلها وأنا أجلس على ذلك الكرسيّ آمرا ناهيا وعيناي تحطّان على وجهه :
( 1 )
( – عامر الوافي الّذي يزعجنا كلّ مرّة هو لا أكثر من لصّ كريه .
لم نصدّق ذلك واعتبرنا الأمر لا يخرج عن ردّة فعل غاضبة لكن أمّي أكّدت ذلك وهي تكاد تسقط على قفاها لنوبة الضّحك الّتي باغتتها فجأة وتمكّنت منها حتّى خنقتها :
- لا أحد في هذه المدينة يحمل ذرّة شهامة أو مروءة . إنّهم يتمعّشون من البقايا جميعا .
ويعلو صوتها كما لو أنّها تعود من غياب مفاجئ :
- تماما كالذّباب .
وتتهالك كما لو أنّها تكره ما تريد الكشف عنه :
- هناك من يلاحقه السّباب والعهر أينما حلّ كهذا الكاسد أمامي وهناك من يتخفّى وراء بهرج موحيا بالوجاهة وهو لا أكثر من كلب.
وتلتفت نحو الجدار . تكاد تخترقه نحو شرفة العلية لفيلّته المقابلة لحوشنا :
- عامر الوافي هذا دون الكلب . إنّه كتلة مقرفة تتحرّك في هذه المدينة التّافهة .
انحنيت ليلتها عليها في دهشة :
– لماذا تحوّلون كلّ من يزعجكم في هذا الحيّ إلى جيفة ؟ إنّ عامر الوافي رجل محترم والكلّ يلقي عليه التّحيّة . هذا إلى جانب نكتته الّتي تخرج من بين شفتيه في حينها . إنّه محبوب وكلّما جلس في المقهى إلاّ وتحلّق حوله الكلّ لحلاوة حديثه ومزاحه . هذا لا يحصل دائما لكنّ ما يأتيه أحيانا يبدو مثيرا . لقد اكتشفت ذلك بنفسي .

هل كنت أتعاطف معه لأنّه والد ليلى ؟ لا أدري ...؟
تبدو الأشياء من حولي شبيهة بسائل لزج لا تستمرّ على حال . تتشكّل للحظة ثمّ تتهاوى إلى أسفل وتتحوّل إلى خليط غريب ملوّن . هل هذا ما يسمّونه الماضي ؟ هل هي الذّاكرة المشوّشة الّتي تخشى السّقوط في حقائق كالفخّار وسرعان ما تتشظّى مع أوّل شكّ عابر ؟ هي تماما كتلك العجينة المتروكة للشّمس والنّار . لا أحد يصدّق تلك الأصابع وهي تحتفل . إنّها تكتب بحبر سخيّ :
( 2 )
( الأمل يكفي لمحو كلّ ما فات . لا تتردّد في المجيء . أرجوك قاسم . أنا في حاجة شديدة إليك . قد تدهش للهفتي لكنّ مشاعري تفوقها حرارة وهذا ستدركه حتما لحظة وصولك . من يومين فقط رأيت صورتك على الصّفحة الأولى لجريدة الصّباح . العنوان الغليظ أعلاها كان كافيا حتّى يصدّق النّاس أنّك لا يمكن أن تؤذي نملة . لعلّني الوحيدة الّتي جزمت ببراءتك ورأت أنّ سجنك لا أكثر من محنة عابرة وستخرج منها أقوى من ذي قبل . أبدو مهدودة ومهزوزة وهذا يتبدّى في خلطي بين وحدتي وضراوة هذه الجدران الباردة ... ) .

ليلى ... الوحيدة الّتي لم تخدشها الذّاكرة . ظلّت كما هي وشما دون أن تمحى . ذلك الحبّ البعيد كقبلة لم تهمد رائحتها إلى الآن . إنّها كحفنة ماء تتسلّل بين أكثر من نوبة عطش . الآن فقط أشعر بدهشة دفء تلك السّنين البعيدة الّتي لا يضاهيها شيء . كنت في السّابعة عشرة من عمري . أكبرها بشهور قليلة . يااااا ... كم كان ذلك عامرا بالحلم أيّامها وإن بدا لي أحيانا صبيانيّا وطائشا . في لحظة ما نحسّ أنّ حسمنا مع شبابنا الأوّل مجرّد ترهّل لحرارتنا الفتيّة وإن تقنا لرؤية حبيباتنا ولو للحظة . ذلك سيحيي حتما توقّدنا الأوّل ولعلّنا قد نجد شفاها ليست شفاهنا وإن رمنا حديثا مرتّبا يتماشى مع تقدّمنا في السّنّ حتّى نظهر أكثر اتّزانا كما لو أنّنا نمضع لعبة خداع هشّة ولا نتراءى على سجيتنا مبدين ما بلغنا من نضج فارغ . صباحها كانت أكثر من شاحنة تقف أمام الفيلا لتنقل الأثاث الكثير . كنت مستندا إلى النّافذة أرى الحمّالين وهم في جيئة وذهاب . عيناي كانتا مترعتين بالدّموع وأنا عاجز تماما عن منع ما يحصل . كيف لعامر الوافي أن يقترف مثل هذه الحماقة ويفرّط في فيلّته الّتي عشقها طيلة السّنين الماضية ؟ لم يخطر ببالي أنّ ليلى ستترك عليتها ولن أرى وجهها في الصّباح التّالي وهي تبتسم وتلوّح لي بيدها وتواعدني كعادتها . هل كان عبد الرّحمان العامري واثقا من رحيل جاره إلى غير رجعة ؟
ليلتها كان أشبه بخنزير وهو يسبّ ويشتم :
( 3 )
(- سأعجّل برحيله قريبا . لن يستمرّ هذا الموبوء في إزعاجي إلى الأبد . من هو عامر الوافي هذا ؟ إنّه كذبة هذه المدينة من سنوات مضت . الكلّ يعرف كيف توصّل هذا اللّصّ الصّغير إلى امتلاك هذه الفيلا . إنّه ينهب في ذكاء ولا يترك خلفه ما يثير الشّبهة وإن كانت بادية للجميع . لكنّها شبهة سائبة منفلتة لا يستطيع أحد ما مسكها . هذا هو عامر الوافي . داهية صغير يحسن صنع الضّحك على الذّقون . في أماكن مغلقة يتحوّل إلى مهرّج بالغ التّأثير . دائما ما يملأ البطون المتخمة بالنّكتة الهادفة . روحه مرحة لكنّها تكمن في جسم ثعلب ماكر . لقد كان هو أيضا ملذّذا خفيّا لآخرين يعشقون خلوتهم دون أن يكتشف أمرهم أحد. لقد أوصد عليّ أكثر من باب للرّزق طيلة سنوات ولم أتوصّل إلى حسم أمره رغم ما بذلت من جهود وما قدّمت من أموال حتّى أتمكّن منه . هو داهية يحسن أداء دوره دون أن يفرط فيه . دائما ما يختار الحلّ الوسط ولا يمسك العصا من طرفها . تماما كذئب لا يتعرّى ولا يكشف أوراق لعبه دفعة واحدة لغيره . على جرعات عديدة يبلغ هدفه في حذر . يتمكّن من الرّواء أخيرا وإن تعتعه العطش مدّة طويلة . الحقيقة عنده مجزّأة دائما . لا تصل كاملة أبدا . غيره هو من يتعقّبها حتّى تبلغ من يريد أن تصله . لا يغضب ويثير غيره . فقط يوحي بالعواقب الوخيمة إن تطاول عليه الآخرون دون أن يوجّه إصبعه إلى الشّخص الّذي يستهدفه أو يتوقّع منه شرّا ... )

الآن فقط أدرك سبب تفريط عامر الوافي في فيلّته . ها هي الذّاكرة عادت من غيابها لتهتك الأسرار البعيدة الّتي لم تلتئم كما يجب حتّى أتمكّن من ربط السّبب بالمسبّب وأبلغ الخفايا من وراء ذلك . لعلّ ليلى تجيبني وتبدّد هذه الغشاوة بعد لقائي بها .
وسيّارة الأجرة تتّجه شمالا كنت هائما في أكثر من حالة سائبة . لماذا كتبت لي بعد كلّ هذه السّنوات ؟ أين قضّت سنواتها الفارطة قبل أن تستقرّ أخيرا بمدينة الحمّامات ؟ هل تزوّجت ؟ لعلّها ترمّلت ؟ قد تكون مطلّقة ؟ ربما لم تتزوّج ؟ ما أثارني أيضا أنّها وصفت لي مدينتها بشكل مثير جدّا غارق في شعريّة عاليّة كما لو أنّها تقتطع هذه المدينة السّياحيّة من رحم سحريّ بعيد في زمن ضارب في القدم ؟ تبدّت لي أخرى لم ألجها من قبل وإن كنت أحبّ هذه المدينة من سنوات مضت لجمالها وطيبة أهلها وهدوئها رغم زحمة النّاس فيها ولهفتهم على زيارتها .
( 4 )
( أنا أعيش الآن في مدينة الحمّامات الجديدة . هي مدينة قامت حديثا لكنّها ضاربة في القدم . هكذا قامت إلى جانب أخرى . كما لو أنّها كانت غائبة تحت الأرض واستيقظت فجأة . ما يشبه المخاض حصل فجأة دون أن نعيه أو نتبيّنه إلاّ بعد حصوله . إنّ الأمر أقرب إلى ألف ليلة وليلة أو إلى رسّام عاد من غيبة قصيّة ومعه ألوان لا عهد لنا بها. لن تصدّق ذلك وهي تهبك رائحة منسيّة كحلم جميل عصيّ لا يستباح إلاّ لمن زارها وتوغّل فيها وحاول أن يستعيد طعما ضائعا منّا ... ) .

ذلك ليس غريبا عن ليلى الّتي بهرتني برسومها الغريبة أيّام دراستنا الثّانويّة . كم كانت الألوان طيّعة بين أصابعها . كانت تعشق المعمار وتهيم به كأبيها . هل أثّر فيها إلى ذلك الحدّ ؟ يومها استقبلتني في الفيلا . أبوها وأمّها وأخوها غابوا عن البيت ليوم كامل . قالت لي صبيحتها :
– أراك بعد منتصف النّهار حالما أنتهي من إعداد طعام الغداء .
كنت أتوقّد توقا لاكتشاف الفيلا من الدّاخل . لسنوات ظلّت تلك الحيطان العاليّة سرّا جديرا بالكشف . كم مرّة صعدت إلى سطح حوشنا حتّى أتبيّن داخلها وما يتراءى منها . لم تصل عيناي إلاّ إلى حديقتها المتراميّة أو إلى العلية الّتي تطلّ على نافذتنا الوحيدة المفتوحة على الزّقاق الّذي يفصل بيننا . عامر الوافي ظلّ ذلك الرّجل اللّغز بالنّسبة لي . لم يسمح يوما بدخول أيّ كان إلى فيلّته من جيرانه . كان هناك فقط بعض الزّائرين الغرباء الّذين يوقفون سيّاراتهم في الفسحة الواسعة أمام الباب الخارجي ويلجون إلى الدّاخل . قلّة منهم كانوا يغيبون بسيّاراتهم مع ممرّ الحديقة وسرعان ما يغلق الباب خلفهم . زوجته السّيّدة مريم امرأة متحجّبة قلّما ظهرت في الزّقاق وتحدّثت لنسائه أو حاولت التّقرّب منهنّ . ظلّت لسنوات حديثهنّ وهي تخرج فجأة وفي أوقات مختلفة صحبة زوجها في سيّارتهم القديمة ثمّ تعود كالطّيف وتختفي . فصّلت حيكت حولها حكايات لا حصر لها .
استقبلتني ليلى من خلف الباب مشيرة بيدها أن ألج بسرعة حتّى لا يراني أحد . تبدو خائفة من عيون الزّقاق . قد يصل أمرها إلى أبيها فيعاقبها . كانت ترتدي فستانا أبيض مزركشا بألوان خفيفة وحذاء أزرق باردا كشاطئ بكر . بدت تماما كأميرة وشعرها المشوب بصفرة آسرة يتهالك إلى أسفل في تموجّات صحراويّة حميمة يكتنفها سراب هو مزيج ألوان تظهر وتختفي مع خطواتها في ممرّ الحديقة الّذي تبدّى بقايا قطع رخام تكتظّ في فوضى سلسة توحي بذوق عال .
دخلنا قاعة جلوس متراميّة عامرة بمكتبة تمتدّ مع حيطانها مشكّلة ما يشبه القباب لتتراءى لوحة تختزن تفاصيل خرافة مبهمة وقد امتلأت كتبا متنوّعة من كلّ حجم وشكل . في الرّكن كنبات من خشب رفيع حفرت فيها حوريّات صغيرات تحمل كلّ واحدة منهنّ أوان فخارية مليئة بالماء في سعي دؤوب نحو عطاشى مهملين على شكل طيور في الأسفل .
على كرسيّ هزّاز بدا لي عامر الوافي جالسا وسط خدمه وحشمه كملك خرافيّ . جلست أقلّب نظري في تحف لا حصر لها رتّبت بشكل لا يزعج العين وهي تنتقل من مكان إلى آخر ممتلئة برهبة . وأنا أجوب كلّ ما حولي ظهرت ليلى مبتسمة مشيرة بيدها أن أتبعها . تسلّلنا إلى العلية كما لو أنّ هناك من يراقبنا خلسة أو يتوعّدنا في صمت دون أن يجد نطقه . خفنا من الجدران أن تفضح مغامرتنا الصّغيرة وتروي لعامر الوافي فعلتنا . توقّعنا أنّ أحدا لا ندرك له ملامح معيّنة قد يشي بنا وسط تلك الرّائحة الّتي تختلف عن رائحة زقاقنا المترع برطوبة لزجة ونتانة أحيانا . هنا في هذه الفيلا تبدو الرّائحة أخرى . ياسمين وفلّ وعطرشاء ونعناع وتوابل وخزامى . كما لو أنّها منفصلة عن المكان والزّمان ولا تنتسب لما هو قائم حولها . بين حوشنا الموبوء الرّخيص وبينها مسافات لا يمكن حصرها رغم أنّ الزّقاق يفصل بينهما . كم تمنّيت لحظتها أن أكون ابنا لعامر الوافي . هكذا غمرني هذا الإحساس وتمكّن منّي . هناك روح معطّرة وسائبة تندسّ في الباحات الصّغيرة وتنتشر في الشّرفات والغرف وتحتضن كلّ الحيطان في حميميّة بالغة جدّا . من سنوات وأنا أشتاف لها وأشعر بها عالما مشبعا بعشرات الأسرار ولم أترك عادة سرقة النّظر إليها لتكبر لهفتي معي شيئا فشيئا حتّى صارت حلما أقرب إلى مستحيل لا يمكن أن يتحقّق . أبدو الآن كلصّ وأنا أصعد مدارج الرّخام وأقلّب بصري في كلّ ما حولي. أخيرا تمكّنت من عامر الوافي وولجت تلك الهالة المغلّفة بالخفايا دون إذن منه أو رجاء من زوجته السّيّدة مريم .
الخريف يتراءى أقلّ حدّة على جانبي الطّريق وصاحب سيّارة الأجرة مازال غارقا في ثرثرته حول سوء الحال وقلّة ذات اليد وأطفاله الّذين لا يكفّون عن مطالبهم صباحا مساء وزوجته الّتي سرعان ما تتهالك على الفراش وتغرق في نوم ثقيل ولا تكلّف نفسها عناء السّهر معه ولو لليلة واحدة في الأسبوع هذا إلى جانب تركه للخمر الّذي أفسد أيّامه وصارت رتيبة بلا طعم .
تبدو المسافة ثقيلة وأنا أتلهّف لرؤية ليلى . إحساس ما يفضي بي إلى أيّام مقبلة تختلف عن سنواتي القاتمة الّتي عشتها في ذلك الحوش مع عبد الرّحمان العامري والعارم وربح وحليمة . إلى هذه اللّحظة أشعر أنّهم سيعودون إلى ذلك الحوش ويغرقون مرّة أخرى في معيشهم وعاداتهم الكريهة . لا يمكن للموت أن يمنعهم من الأوبة من جديد . هم أشدّ قرفا من الموت . بدونهم يستحيل أن يخطف أرواح النّاس وتعود الحياة إلى تلك المدينة الهاتكة لكلّ ما هو جميل فيها . يعسر أن تغيب العارم نهائيّا وتجتثّ من تلك الرّائحة العائمة في الزّقاق كما أنّ عبد الرّحمان العامري يصعب أن تتخلّى عنه تلك الجدران السّافلة ويتحوّل إلى بقايا عظام في خلاء منبوذ يهرب منه الأحياء قدر ما يستطيعون لأنّه يذكّرهم بالعدم وكلّ ما هو مبتذل ورخيص .
إلى هذه اللّحظة وأنا أزيل الأغبرة المتراكمة وأحاول أن أستعيد تلك التّفاصيل المنفلتة مقوّضا في مكابدة مرارة ما حصل لي . أسعى لمحو كلّ الّذي فات حتّى أنطلق من جديد بلا ماض .. بلا ذاكرة .. بلا شعور بالرّجس والدّون .. هل يمكنني ذلك بعد سنوات طويلة في ذلك الحوش ؟ قد يكون إحساسي بصباح آخر مختلف لا أكثر من نزوة عابرة وأنا ممتلئ بحبيبتي الأولى .
ولجنا أخيرا غرفتها بعد صعود بطيء إلى العلية . بدت لي الغرفة سماء صغيرة مليئة بالنّجوم والألوان الهادئة . تماما كقصيدة شعر تلقى وسط صمت روحانيّ غريب . لا أدري كم أمضينا معا وما دار بيننا من كلام . ما أذكره الآن دون سواه هو ما يشبه القبلة . شفتان اقتربتا منّي وأنفاس عبقة برائحة تلك الفيلا تحطّ على خدّي وتمضي إلى أسفل كحرير . هل قبّلتني ؟ هل قبّلتها ؟ لا أستطيع أن أحزر ذلك . فقط شعرت بخدر ما أقرب إلى غيبوبة لذيذة تحملني مع تلك الرّائحة إلى أرجاء الفيلا المتراميّة الأطراف وتذرفني فيها ذرّات حالمة لا تلتئم . أفقت أو هكذا توقّعت على صوتها الرّخيم وهي تطلب منّي أن أتناول عصير البرتقال . هل تركتني غائبا عن وعيي وذهبت لتعدّه ؟ هناك أشياء كثيرة حصلت دون أن أعيها لكنّني أكاد أدركها . أكاد ألمسها . كما لو أنّ أصابعي اندسّت في شعرها وغابت هناك . كما لو أنّ صدرها حطّ على صدري بكلّ نبضه العالي . كما لو أنّ ذراعي أحاطت بخصرها وجذبتها في رقّة لا مثيل لها لأمتلئ بأنفاسها الحارّة إلى حين غير محدّد . هناك أمر حصل لا أقوى على رسمه كما هو . حركة أو ما شابهها . أقرب إلى زهرة وهي تنضمّ فجأة يغلّفها ندى بلغ كلّ بتلاتها الغائبة ومضى رحلة نوم لا أدري مداها . هكذا عشت تلك اللّحظات برمّتها دون قدرة على ترتيب وقائعها كما هي أو استعادتها كما حصلت تماما .
الخريف يتهالك مع الطّريق تحت وطأة صيف مازال متشبّثا بشدّة حرارته إلى آخر لحظة رغم الرّذاذ الّذي يتحوّل بين حين وآخر إلى شديد في طشّ سريع ويتواطأ مع ثرثرة صاحب سيّارة الأجرة المفجوع لسقوط بغداد دون مقاومة تذكر. ظلّ لأكثر من ساعة وهو يشتم ويتوعّد . دموع قليلة كانت تترقرق في عينيه :
– لم أصدّق ذلك . تركت العمل لأيّام وأنا مسمّر أمام التّلفاز أتابع ما يجري . كنت أنتظر معركة بغداد الفاصلة . توقّعت خسائر لا حصر لها . لا أدري لماذا تلبّستني معركة الشّوارع وظللت أنتظرها بفارغ الصّبر ؟ فجأة ضاع منّي العقل وأنا أرى المارينز يساعدون البغداديين هناك على الإطاحة بذلك الصّنم . هكذا انتهت الحرب . ببساطة لا أبشع منها سابت المقاومة ككذبة على شاشات التّلفزيون وانتهى كلّ شيء .
وعلا صوته وهو يضرب المقود في حدّة براحتيه . دموعه غلّفت خدّيه وهو يسرع بشكل هستيريّ :
– إنّها كارثة . كيف تسقط بغداد بذلك الشّكل المهين ؟ أكان يجب أن يحصل ذلك بتلك السّرعة ؟ لماذا كلّ تلك الأكاذيب والبهرج الفارغ ؟ ألا يكفي ما نعانيه حتّى نفجع مرّة أخرى ؟ إلى متى سنظلّ نمضغ مآسينا ؟ هل قدرنا أن نعيش الذّلّ دائما ونريق ماء وجوهنا مع كلّ مواجهة ونغرق في هذا الصّمت الكسير ؟ متى يمكن أن نستفيق ؟
وعاد للشّكوى وهو يزيل دموعه حتّى يرى الطّريق جيّدا بعد أن تهالكت سرعة السّيّارة .
نظر إليّ جانبيّا في استياء :
– لماذا جلست حذوي ؟ ألا تنطق ؟ ألا تردّ أبدا ؟ لقد تعبت وأنا أتحدّث إليك ؟ ابتسمت لردّة فعله ودفعت إليه بسيجارة :
- هل يجدي ردّي نفعا ؟ هل تكفي الشّكوى حتّى لا تستباح بغداد ؟
جذب نفسا عميقة وأطلق الدّخان ليعمّ الوجوه خلفنا . لا أحد اختنق أو قال لا . فقط سعل البعض من الرّكّاب ثمّ حطّ الصّمت وصار ثقيلا كالموت .
ليلتها كان عامر الوافي شجن الجميع . أمّي كانت مبتذلة وساخطة عليه :
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حيزي

محمد حيزي


ذكر
المواضيع والمشاركات : 9
الجنسية : تونسيّة
العمل/الترفيه : أستاذ
تاريخ التسجيل : 27/09/2010

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: رد: حرير وجد   حرير وجد Uhh103/12/2010, 3:07 am



( 5 )
( – كم مرّة حاول طردنا من هنا ؟ لقد بذل ما في وسعه حتّى نفرّط في هذه الخربة ونشتري غيرها . جمع كلّ إمضاءات الجيران بعد أن حبّر خسّتنا ودناءتنا وإزعاجنا لكلّ سكّان الزّقاق . قال إنّنا مزبلة ويجب إزالتها حتّى لا يتحوّل الزّقاق إلى مستنقع . السّافل أطنب في أوصاف لا تليق ولا أقوى على ذكرها ...
أطلق لحظتها عبد الرّحمان العامري الهواء وهو يضغط بشفتيه على راحة يده لتنفلت ضحكته العاليّة :
– لقد جعلته أضحوكة الجميع . لا أحد قادر على مواجهتي مهما علا شأنه .
ورفع قبضته إلى أعلى في وجوهنا :
– لقد مرّغت وجهه بالتّراب ونلت منه .
رمقته أختي حليمة خطفا . كانت هناك مسحة غضب شرسة في عينيها . عادت إلى كأسها لتدلقه في حلقها . لم يستمرّ صمتها طويلا . لعلّها كانت تلاحق لسانها المنفلت منها حتّى تتمكّن منه فلا ينشلّ نطقها ويسيب كما اتّفق :
– رأيته يبكي كطفل وهو يقدّم مفاتيح الفيلا للمالك الجديد . ظلّ مسمّرا أمامها لوقت طويل . لم يلتفت لزوجته الّتي نادته أكثر من مرّة . كاد يسقط وهو يمضي إلى سيّارته القديمة . ظلام كان يغلّف عينيه وهو يصطدم بي . شتمني بعد أن فرك عينيه لحين . قال عنّي ساقطة كما شبّه أبي بالخنزير وأمّي ب ( ...... ) . قبل أن يترك الزّقاق بصق على نافذة حوشنا . مرّغ وجه أختي ربح الّتي لاحقته بأبشع النّعوت القذيعة ... ) .

ظلّ عامر الوافي لسنوات وهو يكنّ العداء لنا . كان يشعر أنّ فيلّته الّتي أقامها بدمه وعرقه وزهرة شبابه لا قيمة لها ما لم يرحل عبد الرّحمان العامري عن الزّقاق نهائيّا وبلا رجعة . كم مرّة حاول شراء حوشنا . كم مرّة أسال لعاب أمّي وهو يرسل من ينوبه خلسة عارضا ضعف الثّمن الّذي نوى دفعه . كان ذلك آخر حلوله حتّى لا يعرض فيلّته للبيع . أخيرا سقط للحلّ السّهل بعد أن ضاقت سبله . أعذاره الّتي باح بها لزوجته كانت مقنعة . هذا ما روته لتلك المرأة الّتي تأتيهم أيّام الآحاد لترتيب الفيلا وتنظيفها في شيء من الحسرة بعد أن طلبت منها أن تكتم ذلك لأنّ البيوت أسرار وأبدت ندمها العابر على ثرثرتها الّتي تمكّنت منه لكن ما يجيش في صدرها غلبها :
( 6 )
( – ليست جيرة عائلة عبد الرّحمان العامري الرّخيصة سببا رئيسيّا في بيع هذه الفيلا . لا ... إنّ عامر ملّ هذه المدينة . صارت بلا طعم وشللها يستفحل أكثر كلّ يوم وهذا البطء اللاّفت يدفع بها إلى ما يشبه الموت كما أنّ مردوديّة زوجي بدأت تضعف وتتهالك . ما عاد يكسب كذي قبل . المتمعّشون الجدد زحفوا بعد وافتكّوا لهم مواقع أمام كلّ باب للرّزق وبأساليب منحطّة جدّا . هذا أثّر على زوجي كثيرا لأنّه لا يستطيع أن يهبط إلى قاع موحل . ظلّ دائما فوق الشّبهة وخدماته كانت شريفة لكنّها لا يمكن أن تكون بدون مقابل وإن قرّر الشّماتة بخصومه الّذين ظهروا فجأة . إنّهم بلا تاريخ . بلا أصل . نفعهم آنيّ عابر وليسوا ذخرا ثابتا . يتناوبون تباعا ومن يسقط منهم لا يقف من جديد . المدن الكبيرة هي الوجهة المقبلة . مواجهة من لهم باع وذراع أفضل من هذه الفطريات القصيرة العمر . لهذا قرّر الخلاص من هذه الجدران الميّتة . بمالها يستطيع أن يدفع خطوات ثابتة في مدينة تحتفي برأس المال وتدفع به إلى الثّروة . إلى فوق . هناك سيحسّ بوجاهة أخرى . لن تزعجه عائلة كعائلة عبد الرّحمان العامري مطلقا . سيبجّله الجميع ويحتفون به حيث حلّ . سيشعر بوشيجة أخرى مع النّاس . سيبني قلعة . لن يكتفي بفيلا كهذه . هذا ما أزمعه ودمعتان تتهالكان على خدّيه . تصوّري هذا . عامر الوافي يبكي وهو يحلم بدنيا أخرى خارج هذه المدينة . لعلّ إحساسه بالرّحيل يمزّق تلك الرّابطة الّتي يسمّونها العشرة . صعب علينا أن نترك هذا الهواء النّقيّ وهذا الماء الزّلال . هذا ما يميّز هذه المدينة دون غيرها. هواؤها وماؤها وشجرها . من يعيش هنا ويرحل سيحسّ أنّه فقد الكثير ... ) .

ببساطة تركت عائلة عامر الوافي زقاقنا . كما لو أنّها لم تعش فيه طيلة سنوات . فجأة غابوا عنه . فقط ظلّت أسماؤهم متداولة إلى حين على ألسنة السّكّان . تردّدت لأيّام ثمّ ماتت لتأخذ مكانها العائلة الّتي سكنت حديثا . فقط ظلّ القلّة يروون حكايات غريبة عن عامر الوافي الّذي شغل كبار السّنّ والنّساء وطفل مثلي ولم تكفّ ألسنتهم عن استعادة ذلك .
( 7 )
( ...كم شعرت ببرودة ذلك الشّتاء لكن مشاعري كانت دافئة متدفّقة فلم أحسّ بحدّته كغيري من أفراد أسرتي . كان عليّ أن أحسم أمري مع قلبي وأبلغ خياري النّهائي مهما تقدّمت بي السّن ّ. يبدو ذلك غريبا مع من كانت في سنّي . كيف لها أن تسطّر الآتي ولا تقبل إلاّ بمن أحبّت ؟ ذلك كان عبثا . هذا ما ردّدته أمّي وهي تعدّد خصال الرّجل الّذي تقدّم لخطبتي . مال وشباب ووسامة وعائلة محترمة تليق بأسرتنا الصّغيرة . كنت تملأ قلبي كلّ يوم يمضي . تماما كسحر يشبه نهاية جميلة لكلّ قصّة حبّ أولى ... ) .

لاحت ابتسامة على شفتيّ مع رذاد المطر المتساقط على بلّور سيّارة الأجرة . كيف لقصّة حبّ أن تقاوم كلّ هذه السّنين ؟ ما بها ليلى ؟ هل جنّت ؟ هل انحبست في تلك السّنوات ولم تشعر أنّها صارت امرأة في حاجة لزوج وبيت ؟ كيف يمكنني أن أصدّق هذا الهراء ؟ كيف لها أن تقاوم أباها وتعيش عزباء طيلة هذه الأعوام ؟ ألم تتمكّن أمّها منها ؟ تبدو الحقيقة خاليّة من عمقها . مجرّد أخبار لا أساس لها من الصّحّة . نزوة دفعتها حتّى تكتب لي رسالتها الطّويلة . هل نسيت أنّني من عائلة رخيصة كانت سببا في تفريط أبيها لفيلّته الّتي أمضى عمرا في تشييدها ؟ أتكون خرفت وهي قد تكاد تبلغ الأربعين من عمرها ؟ لعلّه الخرف المبكّر ؟ تتراءى الأسئلة سائبة كذرّات المطر على البلّور . أتهالك معها من أعلى لأغيب في الأسفل ثمّ أعاود التّناثر والهبوط الحلزوني إلى وجهات عديدة مع كلّ هبّة ريح مفاجئة . أنفلت مع شتاء بعيد عشته مزقا وحبيبتي تغادر إلى وجهة مجهولة وتتركني لذلك البرد اللاّذع وحيدا أطارد علية كانت تلوّح لي من خلالها كلّ صباح وتواعدني ككلّ يوم . ازداد كرهي لعبد الرّحمان العامري وتمنّيت له الموت . كنت قد شتمته في غضب وأنا أنتصب فوق السّطح منفعلا :
- أنت لا أكثر من ثور هرم .
ثمّ بلغت مفردات سمجة لا أقوى على ذكرها :
- أنت ...........................
كان صياحي يومها يطال كلّ الجيران .
ولم أكتف بذلك ...
أحسست أنّه هشّم قلبي وقضى عليّ وقرّرت بيني وبين نفسي أن أثأر منه . أن أعاقبه حتّى أطفئ النّار الّتي التهبت في صدري . كم مضت عليّ اللّيالي ثقيلة لم أذق طعما للنّوم فيها . صرت لا أراجع دروسي ولا أهتمّ للمعهد . كثرت غياباتي وكادوا يطردونني بعد إنذارات عديدة . سنتها رسبت وضاعت منّي سنة كاملة . أمّي بكت طويلا وقالت لي إنّ قلبها تحطّم ولن تغفر لي غلطتي مهما حصل منّي . حليمة أصيبت بخيبة أمل شديدة ورأت أنّ أمري انتهى ولن تشيّد آمالا هشّة عليّ بعد . ربح صفعتني ودموعها تترقرق في عينيها . قالت إنّني حلمها المتبقّي وبدونه لن يكون لحياتها معنى . سلب منها بعد أن كانت ترى نفسها فيّ وأنا أحصل دائما على المرتبة الأولى وبمعدّل عال . عبد الرّحمان العامري غاب في الصّمت . لم ينبس بشيء . كان هناك ما يشبه الحزن في عينيه وإن لم أحفل بذلك . حقدي عليه كان أعمق من دمعة قد تسقط من إحدى عينيه . بدا حزنه تماما كحجرة لا يمكن أن تنطق وإن كانت مبلّلة . فقط ظلّت باردة تنتحب داخل ذلك الصّدر الدّاكن . ربما أحسّ أنّ أيّ ردّة فعل مهما كانت لن تزيدني إلاّ كراهية له ولعلّه رأى أنّ ذلك شماتة قد تدفعني إلى الهرب صوب سطح الحوش وشتمه كعادتي كلّما بادرني بالعداء . خيّم الحزن على الجميع . لأوّل مرّة يعشّش الصّمت في حوشنا . لا أغراب ولجوا إلى غرف الحوش ليلتها . الكلّ تقوقع . أصيب بالخرس التّام . كان ذلك كمأتم حادّ لا يشوبه الصّراخ . نحيب ما أحسسته يكابد حتّى يخرج من الحناجر والكلّ يخنقه . حينها أدركت أنّ هناك ما هو أبشع من الصّمت لحظة فقدان النّطق . شعرت أنّني مهمّ . أمري يعني الجميع بلا استثناء وإن أحسست بالذّنب تجاه عبد الرّحمان العامري الّذي تراءى لي مهموما ولم يوار قلقه . مسحة من الحسرة تشكّلت على وجهه . كما لو أنّني ابنه الّذي رسب وليس آخر يبادله الكره والقطيعة من سنوات خلت . هكذا تسلّل إليّ الحبّ فجأة وجاب صدري وانهمك يطهّرني من طبقة سميكة كالغبار اللّزج ويزرع فيّ الفرح ويحدف بي إلى عائلة متضامنة متحابّة تهتمّ لكلّ فرد فيها . كان ذلك أجمل ما حصل لي رغم رسوبي المرّ . اكتشفت أنّ هناك من يفكّر بي ويخاف عليّ ويعنيه نجاحي وتفوّقي .
الصّيف عامها يا ليلى كان قاسيّا جدّا . مراجل تغلي وتفرز السّعير والعرق . كنت ملتهبا بدوري وقرّرت أن أعثر عليك كلّفني ذلك ما كلّفني . بحت لأختي حليمة بما يحصل لي . ذكرت لها سبب رسوبي وطلبت منها مالا . ضحكت يومها حتّى آلمتها بطنها وسقطت على طرف الفراش . قالت إنّ الحبّ جميل لكنّه لا يجب أن يتمكّن منك إلى هذا الحدّ وأنت في هذه السّنّ ولا تستطيع إن استجبت لك أن تجد حبيبتك في مدينة مترامية الأطراف كالعاصمة ما دمت لا تملك عنوان سكنها . هوّن عليك الآن . قد تصلك رسالة منها وسأقدّم إليك ما يكفيك للسّفر إليها . هذا وعد منّي . وانتظرت رسالة منك إلى أن غلّفني اليأس وشككت في أنّك أحببت مرّة أخرى . قد يكون جارك الجديد أيضا .
يتهالك صاحب سيّارة الأجرة في ضحكته المفاجئة لحظتها :
- هل أصابك الخرس ؟ لقد وصلنا .
كان عدائيّا معي . كما لو أنّني من دعا تلك الجيوش الحاشدة إلى العراق وطلب منها أن تزحف على الأخضر واليابس . هكذا بدوت في عينيه وأنا أفتح الباب وأتسلّل إلى الخارج مبتعدا وأصابعه تلاحقني :
- أنت والآخرون سبب ما يحصل هناك . دائما ما تهربون من الحقيقة أيّها العلوج وتجدون لكم أعذارا عديدة . لن أستثني أحدا مهما علا شأنه . كلّنا أسوأ من بعض ولا أحد منكم قال لا .
كدت لحظتها أن أغربل العاصمة حتّى أعثر عليك . كان يمكن أن تتغيّر أشياء كثيرة وأحسّ بطعم آخر لهذه الدّنيا . كان أبوك قادرا على مواجهة عبد الرّحمان العامري أيّامها دون أن يتهالك فجأة ويرحل . أكان عليه البكاء كطفل ؟ كيف لرجل مثله أن يهرب ؟ وممّن ؟ من ذلك الكلب البغيض ؟
دائما ما يمضغ النّاس خفايا غيرهم عندما يختفون أو يرحلون . لأيّام طويلة ظلّ أبوك حديث الجميع . حيكت حوله قصص كثيرة مثيرة للدّهشة . كنت أجلس على سطح مقهى الزّقاق لقربه من أفواههم بعد أن مللت سطح حوشنا وأسترق السّمع للجالسين وأجد لذّة غريبة مشوبة بشيء من الحزن وأذناي تتلقّيان كلّ تلك الأسرار الغريبة . أنا لم أكرهه يوما ولم أحمل نحوه ضغينة ما . أعترف بأنّني أدّبته صحبة أصدقائي لأنّه أهانني أمامك . لا أنكر أنّني تصرّفت معه بشكل أربكه فصار يتحاشاني حتّى لا أفضح أمره في الزّقاق . حتّى لا أعيد الكرّة معه . كلّ ما في الأمر أنّه أخذك بعيدا وهذا ما جعلني أراه هاتكا لوشيجة حميمة جمعت بيننا . يبدو لي كمن سرق منّي أحلى ما في الزّقاق دون أن أتبيّن ما هو أو من فعل ذلك . خاطر يجثم عليّ قبل أن أمرّ قرب العلية . حين أرفع عينيّ نحوها أستعيد ملامح وجهه الحاسمة . أراه كما لو أنّه يجرّك في الممرّ الدّاخلي نحو تلك السّيّارة القديمة ويلقي بك في المقعد الخلفيّ وأنت تبكين وترفضين الرّحيل . أكاد ألمس خدّيك . دموعك كانت شبيهة بالصّمت وآهات صدرك الصّغير الّذي لم يتكوّر جيّدا أشعر بها بللا يملأ عينيّ . بكيت طويلا يومها على سطح حوشنا . كان الحمام يغرّد قربي قبل أن يهشّم عبد الرّحمان العامري تلك الصّناديق الّتي تأويه . كم كان ذلك بشعا . ما يشبه فلقة تحطّمت في قلبي لتحوّله إلى بقايا باكية . تماما كجوع رهيب قبع داخلي ليتأكّني . ذلك كان حادّا لأحسّ بوحدتي كالموت . نزفت على سطح الحوش أيّاما طويلة واختفيت حتّى انتاب الشّكّ أمّي فأسرعت إليّ بعد أن نادتني مرارا دون أن أجيب .


يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حيزي

محمد حيزي


ذكر
المواضيع والمشاركات : 9
الجنسية : تونسيّة
العمل/الترفيه : أستاذ
تاريخ التسجيل : 27/09/2010

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: رد: حرير وجد   حرير وجد Uhh103/12/2010, 3:13 am



فصل اللّقاء :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تسمّرت وأنا أباغت بك فجأة ...
هل أنت ليلى ؟ خطفا مررت كقبلة حالمة تحت رذاذ ذلك الفصل الحافي . كنت مبلّلا بما يشبه الدّوار ولم أتمكّن من مناداتك حتّى . هل كنت أنت ؟ بدت لي المدينة مزدحمة بشبيهاتك وأنا أجوبها من شرقها إلى غربها بحثا عنك . كانت الشّوارع والأزقّة تحدفني من شهرزاد إلى أخرى . كلّهنّ أميرات في خطوهنّ وكبريائهنّ وسحرهنّ . حكايات لا حصر لها تسيب هنا وتورق ما يشبه الغرائب والعجائب بين جدران ضاربة في القدم وروائح لشفاه لا تنام إلاّ مع صياح الدّيكة .










أخيرا دلفت إلى مدينة الحمّامات . كما لو أنّ خريفها لم ينطلق بعد . حرّها شديد بعد ولم يترك سكّانها تلك الملابس الخفيفة وشاطئها مازال يستقبلهم في دفء عجيب وحميميته ظلّت بارزة على الوجوه وصيفها يرفض الرّحيل ويتوعّد بالبقاء أسبوعين أو أكثر والنّسمات عليلة هائمة تتسلّل كالسّحر من كلّ صوب وحدب ولا أحد يتوقّع نوبة ريح أو عاصفة . بدت لي غريبة متوهّجة بالحياة وهي تنحدف في خطواتي حتّى أتوغّل فيها . شعرت بارتباكي يخذلني وأنا أتملّى الوجوه . لسنين طويلة لم ألجها . ظلّت كقصيدة مبهمة تروى وتتجدّد . كيف لي أن أستعيدها في ملامح ليلى وأنا لا أذكر إلاّ وجها جميلا شددته بين راحتيّ كعبّاد شمس ثمّ انفلت كحلم عصيّ وضاع منّي ؟ خطوت مع رصيف مترام عبق برائحة البحر وأنا أجول بعينيّ حتّى أتبيّنها . ألم تضرب لي موعدا بعد كلّ هذا الغياب ؟ لا أتوقّع أنّ الأمر دعابة بعد هذه الرّحلة الّتي دامت لساعات مضغها صاحب سيّارة الأجرة وبدّدها وهو يتحدّث عن بغداد في حرقة شديدة . ألا تكفي أحزاننا حتّى يستعيدها متوهّما نصرا لا وشيجة له ؟
وأنا أخطو دون وجهة محدّدة بلغت مدينة متراميّة بدت لي أوّل الأمر ضاربة في القدم كما لو أنّها اقتطعت من أماكن شتّى والتأمت كلوحة موزاييك . تبدو للنّاظر قديمة جدّا لكنّها تتراءى غير ذلك للمتمعّن الشّغوف . ولجتها حتّى أكتشف خفاياها ونواياها . أكثر من باب أعرفه اجتثّ من مكانه وجيء به إلى هنا . كيف حصل ذلك وما قام هناك مسنّ مترهّل رمّم أكثر من مرّة حتّى يستمرّ ؟ هل هو شبيهه ؟ بدا لي ذلك أقرب أسر خالص وأنا ألج ساحة شهرزاد . جلست وطلبت فنجان بنّ . هل واعدتني ليلى هنا ؟ عدت للرّسالة مرّة أخرى .
( 8 )
( لقد ملّ أبي العاصمة وانتقل إلى الحمّامات . بدا عدوانيّا في سنواته الأخيرة . ما عاد يحتمل أمّي وصار حادّ الطّبع معي . إلى الآن لا أستطيع تفسير هذا وإن ظهر بعد رحيله ما يوحي بجرح بعيد . قد تساعدني على كشفه إن أنت تمعّنت في يومياته الّتي تركها رغم ما بلغته منها . ليس رفضه لي هو السّبب لأنّه كان يغمرني أحيانا بحنان عجيب . هو يحبّني حتما . هذا أحسست به عميقا وهو يشدّني إلى حضنه ويقبّلني ويداعبني . كان يلعب معي الغمّيضة كلّما غابت أمّي عن الفيلا وقصدت حمّاما في وسط المدينة رغم قرب ذلك الحمّام من الفيلا . يصحبها إليه ثمّ يعود . لماذا عناء الذّهاب بعيدا عن الزّقاق ؟ لا أدري سبب كرهه لحمّام الحيّ . لعلّه لا يرغب في لقائها نسوة الزّقاق والحديث إليهنّ . بعد ساعتين يعود في سيّارته إليها ويصحبها إلى الفيلا . ذلك حيّرني سنواتها وأنا أراه في قطيعة غريبة مع كلّ ما حوله . لم تكف الجدران العالية الّتي نفصلنا عن سكّان الزّقاق وتحيطنا كما لو أنّنا في سجن مترام لا نخرج منه إلاّ للذّهاب إلى الحمّام أو فيلا عمّتي في ما ندر . كان ذهابي إلى المعهد وعودتي منه فرصة يتيمة حتّى أكتشف ما حولي . كنت دائما ما أجوب أزقّة الحيّ كما لو أنّني أتحدّاه وإن كان ذلك خفية عنه . لم ينتبه إلى ذلك وأنا أقترف الكذبة بعد الأخرى كلّما تأخّرت . طيلة عيشنا في تلك الفيلا وأبي يرصد كلّ حركة منّا خارج أسوارها الشّاهقة . أحيانا كثيرة يبلغني صياحه القادم من غرفة نومه . صياح فيه حسم ووعيد . أطلّ من ثقب الباب فأرى أمّي تبكي . يتحوّل نطقها إلى ما يشبه الشّلل ونشيجها يتمكّن منها فتتعثّر الكلمات على شفتيها ولا تبلغ أذنيّ فأدرك سبب صدامها الحادّ . لعلّها ملّت سجنها وتسعى للخروج منه حتّى تتعرّف على نساء الزّقاق وتتحدّث إليهنّ . ظلّت دائما حزينة إلى أن اكتشفت أسرارها بعد فوات الأوان . كان ذلك ضربة قاصمة خرجت منها وأكثر من شرخ عميق يهدّ قلبي . كانت الفيلا وما يحصل فيها سنواتها أسئلة مبهمة لم أتمكّن من العثور على إجاباتها إلاّ بعد اكتشاف مخلّفات عديدة منها اليوميات الّتي حدّثتك عنها وأريد منك الإطّلاع عليها . قد تجد فيها ما لم أنتبه إليه وإن لفظت كلّ ما فيها وأسعى إلى حفر مصير آخر حتّى أعيش الدّنيا كما أشتهي دون أوبة إلى ماض لم أكن سببا فيه بقدر ما كنت ضحيّة له ... ) .

لا إشارة ما في رسالتها تحدّد مكانا للّقاء . تمعّنتها لحين ولم أنتبه لرقم الهاتف في أسفلها . شعرت بحمقي وأنا أتوقّف عنده . بقيت نحو نصف ساعة في المقهى . العياء كان قد تمكّن منّي وأنا غارق في صحيفة .
بلاهة ما سمّرتني وأنا أتساءل . لماذا صار أبوها عدوانيّا في سنواته الأخيرة ؟ هل هو خرف المتقدّمين في السّنّ ؟ ألم تكن العاصمة هدفا سطّره وانتقل إليها لأنّها أرحب وأكثر فرصا ؟ هل فشل هناك بعد أن دبّ فيه اليأس في مدينتي ؟ هل عضّه النّدم بعد أن فرّط في فيلّته بالبيع ؟ أكان عليه أن يقيمها في ذلك الحيّ الشّعبيّ ثمّ يتخلّص منها ؟ ربما أساء التّقدير سنتها وتوقّع أنّ السّكن هناك أفضل من أماكن أخرى ؟ تبدو الفيلا حاضرة دائما في مخيّلتي . لا أدري سبب اهتمامي بها إلى هذا القدر رغم تلاحق السّنين . قد تكون هناك أسرار أخرى أرومها .
هاتفتها بعد أن ملأت صدري برائحة البحر …
بقيت نحو ساعة أنتظر مقدمها دون جدوى . هل حلّت بهذه بالمقهى ولم تتعرّف عليّ أم مضت إلى مقهى أخرى تحمل نفس الاسم ؟ هل ضاعت ملامحي عنها بعد كلّ هذا الغياب الطّويل ؟ كيف لي أن أراها وأناديها باسمها ؟ هل أكتب لافتة عليها اسمي وأضعها على الطّاولة فتنتبه إليها ؟ كنت أستطيع حتما وصف ملامحي لها أو لباسي أو ما شابه ذلك حتّى تتفطّن لوجودي .
تركت الكرسيّ ثمّ عدت وجلست . قد تأتي فلا تجدني . هذا سخف منّي إن أنا فعلت ذلك . انهمكت في تملّي الوجوه العابرة مرّة أخرى . لعلّها بينها ؟ قد تلقي نظرة . ربما تكون متفحّصة . لحظتها أستطيع أن أناديها باسمها فتعثر عليّ أخيرا . لا أدري لم توقّعت أنّ ليلى قد بلغت المقهى واكتشفت وجودي فيها لكنّها لم تحزر أنّني ذلك الغارق في صفحة الجريدة وفنجان البنّ وحولي تلك الهالة من دخان سيجارتي . كان عليّ أن أنتبه إلى هذه الحماقة . كيف أفعل ذلك وأتلهّى عنها بصحيفة ؟ عادة ما يتحفّز من هم مثلي لمن سيلاقونهم ولا يتقوقعون هكذا . طويت الجريدة وألقيتها على الطّاولة كما اتّفق . حتما ستعود وستجدني فطنا لمقدمها . سترى وجهي وستجهد عينيها حتّى تستعيد ملامحي . شعرت أنّني أملك وجها عاديّا كالآخرين . ليس فيه ندبة أو خال أو ما شابه ذلك حتّى تتعرّف عليه كما أنّ لي قامة طويلة وسمرة خفيفة وعينان سوداوان ضاقتا قليلا . لعلّ جلوسي بهذه الطّريقة يوحي لها بأنّني قاسم العامري . غيّرت من تركيبة تهالكي على الكرسيّ وبدوت ذلك الطّالب الّذي يستوي في جلسته وعيناه على أستاذه وما يخطّ على السّبّورة . ارتسمت على شفتيّ ابتسامة ساخرة وأنا أجلس بذلك الشّكل الرّسميّ حتّى أوهم غيري باستقامتي وحسن سلوكي وتركيزي على الدّرس . كدت أشدّ ذراعيّ إلى صدري وأشبك يديّ فأبدو تماما ذلك الطّفل الّذي كان يجلس حذوها في الفصل . بدت ذراعاي طويلتين كما لاح صدري عريضا وأحسست أنّ عمليّة طيّهما توحي بكوني رجلا أخرق . حسمت أمري أخيرا وقرّرت أن أكتب اسمي بخطّ غليظ بعد أن كان ذلك مجرّد خاطر عابر . هكذا ستتمكّن ليلى من المضيّ نحوي . ابتسامتها ستكون في حجم هذا الشّاطئ القريب . سترسو حذوي لا محالة وتصافحني في حرقة وقد تقبّلني . تبدو القبلة حالة حميميّة جدّا لا تعني العابرين بقدر ما توفّر حيزا من الحرارة للقاء مثل هذا . ماذا لو أطبقت الشّفاه على الشّفاه بعد كلّ هذا الغياب واحتضنتني في خدر لذيذ إليها ؟ لقد فعلنا ذلك سرّا من سنوات خلت ونستطيع أن نقوم به الآن ونحن في هذه السّنّ . القبلة أبلغ من كلّ الأحاسيس الأخرى . أن تضمّني وأضمّها فذلك يعني أنّنا لا نهتمّ إلاّ لروحين اجتمعتا بعد فراق وليلاحظ الآخرون ذلك ولهم أن يقولوا ما يشاؤون . إنّها ببساطة قبلة مشبعة كدفق من الماء بين طفلين نسيا الخوف وما عادا يختفيان حتّى لا يكتشف أمرهما أحد .
شددت بعد أخذ وردّ لافتة صغيرة الحجم اقتطعتها من كرتون مهمل من سلّة مهملات المقهى إلى الطّاولة قبالتي وعدت أراقب الوجوه من جديد بعد أن كتبت عليها بخطّ غليظ اسمي فقط . لم أعر لقبي اهتماما . لا أنكر أنّني أحمله غصبا عنّي . إنّه لا يعنيني إلاّ لحاجة عابرة . لا أحد مهما كان لا يريد أن يكون له لقب مثل غيره . مضت ساعة أخرى ولم تأت . هاتفتها ولم يردّ أحد . عدت بسرعة إلى المقهى وجلست . إنّها حتما في الطّريق إليّ . لن أؤاخذها على هذا التّأخير . لعلّ سكنها بعيد عن هنا . ربما هناك أمر ما عطّلها . أعذار عديدة توالت وشيء من السّأم بدأ يحتويني ويدبّ في ّ كالنّمل وشكوك متلاحقة تنيّبني وتتراءى لي كقهقهة ساخرة مدوّية حولي فبدت لي رسالتها لا أكثر من نزوة راودتها ثمّ تخلّت عنها بعد مدّة قصيرة . هل تريد فعلا حدفي في متاهة مبتذلة ؟ أكاد ألمس جراحها في حبرها وأنا أتملّى كلماتها وحروفها ولطخات دمعها على الورق وهي تكتبها . لا يمكن أن تمزح معي هكذا . عدت أورّق ذلك الحلم البعيد . خاطر ما دفعني إلى ذلك . لااااا . إنّها لهفة جارفة إليه :
( ث )
( ...الوجه يغمره الوحل ولا قدرة لي على تبيّنه.مضيت إلى الباب القديم وأمضيت ردحا من الزّمن وأنا أصطدم به كلّ مرّة إلى أن أوجعني كتفي . تهالكت مرّة أولى ثمّ ثانية وسقطت أرضا . استعدت أنفاسي بعد اختناق . انتصبت واقفا وجذبته نحوي فعلا صريره لحين ثمّ انفتح . دهشت لحماقتي . كنت أستطيع الخروج في يسر وما تلك المراتيج إلاّ وهما تملّكني . أكوام الغبار تتهالك من أعلى وتغلّفني . انتفضت فتطايرت حولي . اندفعت إلى الخارج حتّى أزيل وحل وجهه وأدقّق النّظر فيه وأدرك ملامحه . رأيته يبتعد . خطواته كانت ثقيلة وهو يحرّكها فوق الطّين في عسر بالغ . اقتفيت أثره وأنا أناديه عاليّا . لم يلتفت . بدا لي صياحي متعثّرا لا يبلغه وهو يمضي كما لو أنّ لا وجهة له . كانت خطواتي أيضا منهكة وقدماي تلتصقان بالطّين وتندفعان إلى الأمام في صعوبة بالغةحتّى ألحق به وأدركه قبل اختفائه عن عينيّ ... ) .

فجأة وقفت . هل هذه ليلى ؟ دفعت نحوي أناملها في لطف بالغ :
- هل تسمح ؟
وجذبت ولاّعتي من فوق الطّاولة . جذبت نفسا عميقة من سيجارتها وابتسمت :
- شكرا .
ومضت في السّاحة إلى أن غابت خلف أقواس لا حصر لها . تتبدّى وتغيب إلى أن ضاعت تماما . طولها الفارع وساقاها الرّخاميتان وقدّها الجميل وحلاوة نطقها وابتسامتها وهي تضمّ شفتيها كزهرة . كلّ ذلك ذكّرني بليلى . هل كانت هي ؟ رجفة ما فاجأتني لحظتها . ما يشبه النّبض العالي اعتراني وهي تهمس لي وتغيّب وجهي خطفا وراء دخان سيجارتها ثمّ تتركني وتمضي مبتعدة كحفنة ضوء . تركت الكرسيّ وتسلّلت وراءها . لن تبتعد بالقدر الكافي . سألحق بها وأباغتها كما باغتتني . سأحاول مناداتها بليلى وليكن ذلك خلطا أو جرأة منّي . بعد خطوات مديدة رأيتها . ماذا حصل لي ؟ أكان عليّ أن أترك المقهى وأمضي خلف امرأة توقّعتها ليلى ؟ لا أظنّ أنّها تحاول أن تخبر قدرتي على استعادة ملامحها بعد كلّ هذه السّنوات ؟ ذاكرتي ليست ثاقبة إلى هذه الدّرجة .
حدجتني ثمّ مضت . عدت في خطو بطيء واحل إلى أن بلغت طاولتي . تسمّرت أمامها وأنا أرى وردة نائمة على الصّحيفة . من حطّها هناك ؟ لم يبال بي النّادل وأنا أستفسره . زمّ شفتيه في حيرة وابتعد إلى طاولة أخرى . ارتبكت وأنا آخذها بين أصابعي وأتمعّن فيها للحظة . أعدتها إلى مكانها وتوقّعت أنّ أصابع ما ستمتدّ إليها وتأخذها . أحسست أنّ بقائي صار لزجا لا يحتمل كما تبدّى لي أنّ هناك عرق غزير نزّ منّي وتحوّل إلى مادّة لاصقة تسمّرني في مكاني . بدوت أقرب إلى رجل أخرق يلاحق وجوها شتّى ويحاول جاهدا أن يرسم في واحد منها ملامح امرأة قد تكون ليلى . لا أدري لحظتها لم تسلّلت يدي إلى رسالتها الطّويلة وتهجّي خطّها من جديد وإن كان جميلا يميل إلى تشكيل تجريديّ يغيب في صحو يشبه السّكر وشتات اليقظة ويوهم بغياب كالشّعر وإن استعصى على التّفكيك وضاع في مراوغة عسيرة لم تحبكها أناملها كما ادّعت . إنّني أراها تتملّص أحيانا من قلمها وتسعى إلى سجن حبره حتّى لا تفسد عليّ كشفا يتبدّى مغريا وهي تروي لي بعض خفايا مدينتها :
( 9 )
( ... القصر على مرمى من عينيك لكنّك لن تراه . عندما تصل سآخذك إليه حتّى تكتشفه وتدرك تفاصيل عجيبة عنه... ستحسّها فقط .. ستجد في ذلك لذّة أخرى . إنّ نوافذه وشرفاته تكاد تنطق . ستبلغ متعة الحكي قربه وبين شفتي ليلى وهي تظهر وتغيب . لقد رأيتها عدّة مرّات . إنّها تشبهني وهذا أدهشني . هل انتقلت روحها إليّ بعد رحيلها ؟ يقولون إنّ الأرواح تظلّ هائمة إلى أن تعثر على أجساد أخرى فتسكنها وهكذا نستمرّ نحن إلى أن نترهّل ونموت . حينها تفارقنا إلى أجساد أخرى محدّدة قادرة على احتوائها . أكاد أصدّق هذا وسط الفضاء الرّحب من حولي . يستحيل أن يكون خاويا كما اتّفق . هناك في ذلك القصر أمضت ليلى بنت الباي سنواتها مع حبيبها المجنون بها . بلغها مع الماء الّذي تدفّق مع الحنايا ذات ليلة . تلك الحكاية البعيدة ملفّقة . الحقيقة رواها لي أكثر من مسنّ . جدّتي الّتي كانت ضائعة في صمتها قصّت عليّ هذا. الباي كان قد نوى فعلا قتله لكنّ إلاه الحبّ العشق الّذي يرابط على مرتفعات سيدي بوسعيد هبّ من عليائه واستطاع أن يمكر بالجميع . الحنايا كانت ذريعة ولعلّها محاولة للجم قلب الحبيب ومنعه من النّبض ما دامت أقرب إلى معجزة أيّامها ولن يصدّقها عقل . قلّة يعدّون على الأصابع من كبار السّنّ ولجوا الحقيقة واستطاعوا الاحتفاظ بها . هم من الحمّامات . يعيشون في أحيائها العتيقة إلى الآن . ورثوها كما ورثوا الأراضي الخصبة الّتي عمّروها بشجر البرتقال والعنب والزّيتون والتّين . من الجدّة إلى الأبناء إلى الأحفاد كانت الحكاية تسيب بينهم في سرّية تامّة . يخافون من فضحها وانتشارها حتّى يستمرّ الماء في التّدفّق إلى الحمّامات مع الحنايا . قد تسخر منّي وتشير إلى أنّ الحنايا تتّجه شمالا من زغوان إلى الحاضرة . سترى بعينيك أنّ الشّجر يروى ليلا دون أن تتهالك المطر أو يستخرج الماء من باطن الأرض . الحنايا قائمة لكنّك لن تتمكّن من رؤيتها . كما لو أنّ الأشغال انتهت فيها منذ أسابيع معدودات . قل ليلى جنّت أو يصيبها أحيانا مسّ أو ما شابهه . لك أن تشكّ في هذا . حين ترى الشّجر وارفا ممتلئا ستدرك أنّ هناك يقين لا يتبدّى للعين المجرّدة وإن شممت رائحة الماء وتلمّست نضارته في التّربة . لا تقل هذا وهم الرّسّامين ومتاهاتهم الغريبة وما تفعله الألوان فيهم وما تقترفه أصابعهم من حالات صرع مبهمة . لا أنكر أنّني شاعرة ألوان وأهيم في لحظات سائبة وأغيب في ما يشبه الجنون مع البياض أمامي ولا أستفيق إلاّ وأنا غارقة في أشكال تريبني لتطاردني بعد ذلك أسئلة ما رسمت . هذه حقيقة لا مفرّ منها لأنّني لا يمكن أن أرسم ما أريد إلاّ في لحظات تيهي مع توقّعاتي الّتي تبتليني فجأة فلا أبارحها إلاّ بعد ولوجي لوحتي الحلم . هذا أنا ليلى مع الألوان . لكنّني لست ليلى مع القصّة الّتي تروى خفية . قد تتساءل لم رويت لي دون سواي ؟ لعلّني كما ذكرت لك أشبه ليلى بنت الباي . إنّهم يحبّونها هنا . يرون فيها طيب عيشهم . يرون فيها الزّرع والضّرع والأسر الّذي أطبق بفتنته على هذه المدينة وحباها به . ليلى بنت الباي وعاشقها الّذي أقام الحنايا إلى أن بلغت الحاضرة هو الّذي مدّها مع ذلك الإلاه إلى هنا دون أن ترى بالعين المجرّدة . القصر فقط هو الظّاهر . على شبر من نوافذه وشرفاته العديدة يندلق الماء ويمضي إلى الأراضي الشّاسعة الّتي تحيط بالحمّامات ويسقيها ليلا . إن تمّ كشف ذلك ستظهر الحنايا للجميع وتتحوّل إلى أطلال وسيصيب اليباس كلّ ما هو حيّ ويموت الشّجر عطشا وكلّ من ورث الحقيقة سيعطب وينتهي أمره . الحمّامات كما يقولون هي هبة الحنايا والبحر والأرض الخصبة . بدون البحر سيذبل جمالها وبدون ماء الحنايا المتدفّق ليلا ستخيب أرضها ويتمكّن منها البوار وستلتهم ما تبقّى فيها رويدا رويدا . هذا الخوف تراه في عيون من ورث الوقائع الصّحيحة ولم يصبها بأذى إلى يوم النّاس هذا . إنّها تحفظ عن ظهر قلب حتّى لا تخرب أو تأخذ مسالك أخرى لا تروق الأوّلين الّذين خافوا من تدوينها كي لا تصلها العيون وتتسلّل إليها الأيدي فتصير مستباحة لمن هبّ ودبّ . هذه هي تميمة الحمّامات السّرّية الّتي سأرويها لك بعد أن استأذنت راويها المسنّ وزوجته . لم يتوقّعا أنّ ليلى أمامهما بعد عشرات السّنين . ظنّا أنّ روحها ترفرف عاليا في فضاء المدينة ولا يمكن أن تحطّ في أيّ جسد كان . تمعّنا فيّ طويلا وأنا أمرّ أمامهما . حين علا صوت المسنّ ذي اللّحية الّتي تنمّ عن وقار بالغ : " – ليلى " . التفتّ دهشة نحوه : " – هل ناديتني باسمي ؟ " . تسمّر في مكانه وإن مادت به الأرض وكاد يسقط لحين عجيب : " – أأنت ليلى أم هو خرفي بعد تقدّمي في السّنّ ؟ " . اقتربت منه في حيرة كما لو أنّ يدين تدفعانني نحوه : " هذا اسمي " . ظلّ يتملّى وجهي وغاب في عينيّ عميقا وزوجته تكبت صيحتها : " – إنّها هي يا رجل . تماما كما تقول الحكاية. لج عينيها فستدركهما حتما . نفس السّحر المرويّ في خفايانا الّتي لا يعلمها إلاّ أبناؤنا وأحفادنا . تبيّن معي ذلك جيّدا وعد لتفاصيل حفظنا لأطوار ما حصل من عشرات السّنين . إنّها ليلى تعود أخيرا إلى المدينة حتّى تشبعها عميقا وتهبها نواياها الطّيّبة المتبقّية . تلك هي بقية قصّتنا الّتي لم تكتمل في انتظار أوبتها وروحها تعتمل دفقا في جسد أخرى تشبهها تماما . الآن فقط ستبلغ هذه المدينة أوجها الآخر وتبلغ مخاضها المنتظر وتعطي كما لو أنّها لم تعط من قبل . ستتحوّل إلى أخرى أكثر أسرا وفتنة وعلينا أن نتأهّب حتّى نكمل ما سنورثه للقادمين ونصل القديم بما سيحصل فلا يندثر سرّنا بعدنا " .

المدينة أمامي تبدو آسرة فعلا . ماذا لو توغّلت فيها وتعرّفت عليها وسهوت عن موعد خائب ظلّ زلقا لا يستجيب لي . أسوارها العالية تخفي ما لا يتوقّع حتما . خطوت هذه المرّة دون أن أفكّر في سرّ الوردة الّتي حطّت أثناء غيابي القصير على الصّحيفة . تراءى لي أنّ الكرسيّ انجذب خلفي . تحسّست ذلك للحظة وكدت ألتفت خلفي . لعلّ مارّا أو مارّة ما أرادت أن تتخلّص منها فقذفتها كما اتّفق لتقع هناك . لن أهجس أو أرى أنّ ليلى هي من فعلت ذلك حتّى تثير فضولي وتوهمني أنّها تتعقّبني . لا داعي بعد كلّ هذا الانتظار . مررت تحت سقيفة هجرها أهلها منذ قرن ورحلوا قصيّا . كانت رائحة مدينة المهديّة الّتي زرتها مرارا تنبعث منها كبخور فاطميّ آسر . تبدو أقرب ما يكون إلى " السّقيفة الكحلة " هناك . أكثر من باب يهب آخر سرّه وأكثر من نهج يتورّط في شبيهه لتتشكّل الأندلس في الشّرفات مسافات عطر عابق بماض بعيد . دكانين عديدة وسوق تعجّ بالنّاس ووقع منتظم ينبعث من أواني النّحاس وزراب تجتذب مدينة بأسرها إلى هنا وتلقي بها على مقربة من البحر ولعلّها حفرت سبيلها إليه في غفلة . بلغت مقهى أخرى . الأبيض والسّماويّ يحرّك طعمها ونوافذها تنفتح على ربوة عاليّة وتحاول سرقتها دون توجّس أو رهبة . كما لو أنّ الرّائحة هي ذاتها ولا ممكن للمسافة حتّى لا تلتئم شيئا فشيئا وتورق في صمت كالخدر تفاصيل متباينة وإن كان هناك ما يشبه الدّوار اللّذيذ وهو يستفحل ويلقي بظلاله حولي . تتبدّى كما لو أنّها القهوة العاليّة . سيدي بوسعيد يجتثّ كلّ تفاصيله ويرحل ليحدف له جذورا في أرض أخرى ؟ دوار ما تسرّب كدهشة وأنا أغرق في تلك الزّرقة العجيبة وذلك البياض البهيّ .
وكما لو أنّ يدا تحطّ على كتفي وتدفعني إلى الأوبة نظرت في ساعتي خطفا . بدا لي اليوم طويلا . هل توقّفت عقاربها ؟ تمعّنت فيها للحظة . تشكّل الزّمن كقطعة صلصال طيّعة بين أصابع لا حصر لها حولي . ولجت بابا كان قد فتح لي أحضانه وأنا أسترق النّظر إلى أخرى تكاد تكون تلك الّتي ألقت بالوردة على الطّاولة واختفت دون أن تتوقّع أنّ هناك من سيحاول اللّحاق بأناملها حتّى لا يشكّ في كونها ليلى . تتبدّى ليلى طفلة الآن . إنّها تعود إلى عبثها معي . تباغتني ثمّ تختفي عن عينيّ كما كانت تفعل ونحن بعد صغيرين . تدفعني إلى اكتشاف مكانها . فقط غابت ضحكتها الّتي كانت تنفلت منها كلّما توصّلت إلى مخبئها . تهرب فأجري خلفها إلى أن أمسك بها . نقع على الأرض معا قرب ذلك المجرى . تغرف الماء براحتيها وتغمرني به . أتقهقر إلى الخلف . تغرق من جديد في ضحكها وتنهمك في عدوها مرّة أخرى . هل عادت إلى عبثها وهي امرأة الآن في سنّ لا تسمح لها بهذه الحماقات ؟ لا أتوقّع ليلى تحلم بتلك الطّفلة وتوهمني بها . قد لا أتمكّن من الأوبة إلى ذلك الطّفل الّذي يطاردها من مكان إلى آخر حتّى يتمكّن منه العياء فيجلس تحت شجرة ساحة المدرسة وهو يلهث . سنوات كالحلم مضت وأخرى تتأهّب للبدء . تتبدّى الآن وتتشكّل وأنا ألج ما تبقّى :
( ج )
( ... ظلّ الطّين إعاقتينا على الخطو . نفس المسافة تفصلني عنه رغم الجهد المبذول منّي للّحاق به . كلّما توقّعت منه لحظة للوقوف إلاّ واستمرّ في الخطو . لم يلتفت ولو مرّة . بدا لي متواطئا غريبا عن غيره . أحيانا نتوقّف ونلتفت إلى الخلف بدون سبب . هذا طبع فينا كما لو أنّنا نتوهّم أنّ هناك أحد يتعقّبنا . قد يصافحنا ويكون لنا رفيقا فلا نحسّ بطول السّبيل . قد يكون شرّا يقتفينا فنحذر منه . تمكّن منّي التّعب فتوقّفت . توقّف بدوره ولم ينظر خلفه . كابدت وخطوت فخطا هو أيضا . تملّكتني حيرة بالغة ولم أيأس . سأتمكّن منه. حتما له مقصد وسيبلغه مهما خطا . دائما ما توجد هناك نهاية مهما أفرطنا ... )

بلغت الشّاطئ أخيرا . كدت أنزع ما عليّ . الحرّ شديد والبحر فاتن صاف هادئ يوحي بدفء آسر .كثيرات يشبهنها هنا . قد يكون للعديدات منهن ّ اسمها . جلست على الرّمل وشددت ركبتيّ إلى صدري وغبت في ذلك الموج المنحدف في لهفة إلى أجسادهنّ الملقاة كالنّوّار في ريفنا القاسي وبقيت ألاحق تفّاحا يتضاءل ويبلغ أوجه كلّما حاذاني . البحر يزحف إلى القلب حتّى يبلغ عمقه والجسد الحمّاميّ يطوّقه بين ذراعين عملاقتين إليه في دفء حافل ببياض الفاتنات على رمله وسواد عيونهنّ العجيب وأنا الغريب أحاول أن أعثر على بقايا حكاية بعيدة في مدينة عبرتها عديد المرّات بالصّدفة .
وأنا أتهالك إلى الخلف وأغيب رأيتها . إنّ هي بملامحها . تلك الطّفلة الكبيرة الّتي أخذت ولاّعتي هذا الصّباح واختفت . ها قد عادت . إنّها تطلّ عليّ من عليتها مرّة أخرى . خذلني نطقي وبقيت أتملّى وجهها لحين مربك . أخيرا تلعثمت وإن جفّ حلقي :
- أأنت ليلى ؟
ولا أدري كيف تشابكت الأيدي والخطوات والشّفاه وتسلّلنا كطيفين وغبنا عن النّظر وابتلعتنا تلك المدينة الغريبة ودفعتنا إلى أبوابها و أنهجها وأزقّتها كحكاية عذبة تشبه جدّتها الّتي كانت تراقبها أيّامها وتستفسرها عن سبب ذهابها وإيّابها كلّما رأتها تخرج خلسة للقائي .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حيزي

محمد حيزي


ذكر
المواضيع والمشاركات : 9
الجنسية : تونسيّة
العمل/الترفيه : أستاذ
تاريخ التسجيل : 27/09/2010

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: رد: حرير وجد   حرير وجد Uhh1017/12/2010, 3:56 pm



فصل اللّيلة المربكة: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من لهفة الأصابع ورّطنا اللّيل في حكاية مبهمة . كانت شفتاها قد مالتا إلى يبس غريب وهي تتأسّى وتروي ما حصل بعد رحيلها عن حيّنا . بدا لي ذلك أشبه بشهرزاد وهي تحتدم مع أوان موتها وتدفعه براحتيها حتّى يمضي إلى أقصى ما تستطيع . ظلّت تهذي إلى الصّباح لكنّني لم أسمع صيحة لديك الحكاية . فقط تآكلت بين شفتيها إلى أن أشرقت الشّمس أو تكاد .










واندفعت ليلى تروي أطوارها ...
هل كانت شهرزاد أخرى ؟ ... تتبدّى الحكاية مربكة جدّا ...

( 11 )
( ... بعد شهر واحد من قدومه إلى هنا مات . رحل فجأة دون أن يصاب بعلّة . لم يشك يوما من مرض . كان كلّما لزم الفراش نتيجة زكام حادّ إلاّ وتركه بسرعة وعاد إلى عافيته ... )

ابتلعتها غصصها لحين ثمّ وجدت حلقها المنفلت في ما يشبه النّشيج . عادة ما تكون النّهايات الموجعة هكذا ...

( 12 )
( لم يرحل بمفرده . لقد أخذ معه أمّي . سيّارتنا القديمة كانت أقرب إلى علكة سوداء كبيرة الحجم على حافّة الطّريق . لحمهما اختلط بعظامهما . كان ذلك المنظر أبشع ما رأيت . لا أدري لما بقيت في البيت ولم أسافر معهما إلى العاصمة . كانا متعجّلين جدّا في ذلك الحرّ القاسي . لم يلحّا عليّ حتّى أصحبهما . ربما كانا في لهفة للحديث سويّا ولا يرغبان في وجودي . حزن ما كان يمسح وجهيهما كما لو أنّهما توقّعا ذلك الحادث القاتل . رحلا فجأة وتركا لي فجيعة مدمّرة . يومها أدركت معنى اليتم . أدركت ما معنى أن نتحوّل فجأة إلى يتامى وحيدين لا أحد معنا . دون أن نعي نحسّ بفراغ قاتل خال من أيّ وشيجة تربطنا بالآخرين . هكذا دون إذن يرحل أقرب النّاس إلينا ويختفون فجأة . لحظتها ندرك كم نحن سيّؤون . كم نحن كالبور لم نعط شيئا لمن غادرنا . نتراءى كالبخل ... عديمي الجدوى ولا نمتلك أرواحا سخيّة ... بعد رحيلنا إلى العاصمة ذلك العام توقّع فتحا مبينا هناك . أدرك بعد سنة مرّة أنّ العاصمة ستذلّه ولن تعطيه ما يريد . كان كلّما ضاق واستبدّ به الضّيم والقهر يغادرنا لأيّام ويعود إلينا سعيدا حالما . آخر مرّة زار فيها الحمّامات عاد إلينا مربكا جدّا . كان حديثه إلينا طويلا أشبه بالهذيان . ابتسامته كانت عريضة جدّا ليلتها . لم يسكر كعادته وذلك استغربنا له . كما لو أنّه عثر على خلاصه أخيرا فيها . تبدّى كجدّتي حين تروم خرافة آسرة وتغرق فيها بعد صمت طويل . مازلت أذكر إلى الآن آخر جملة ردّدها : " – لقد وجدت ضالّتي أخيرا ولن أستمرّ في هذه المدينة الّتي تشبه الغول . سأتركها بعد أسابيع قليلة وسنستقرّ هناك . إنّها مدينة بكر تحتفي بالغرباء كما لو أنّهم أهلها العائدون بعد غياب طويل " . كان كطفل جميل في ليل العاصمة البارد وهو يقتفي نطقه وحيرته البهيّة . حبانا بحميميّة مشوبة بفرحة متدفّقة لم نتعوّدها منه ... ) .

بعد أن بكت في حضني للحظات خفّ نشيجها أخيرا . تركتني ومضت إلى الدّاخل وغابت لحين ثمّ عادت . ابتسامة خفيفة كانت تمعن في شفتيها دون أن تكتمل .
الشّرفة العاليّة كانت أقرب إلى أحجيّة وهي تلقي بأسرها على امتداد بصرينا ليتبدّى مزيج ألوان مطحون سائب أمامنا في لين رحب يغرق المكان في كون شعريّ شفيف يغرف من الشّاطئ أصواتا لبحّارة قدموا وآخرين بلغوا بعد عمق البحر في رحلة بعيدة . الضّوء الضّعيف خلفنا كان يودعنا ظلالا طيّعة توارينا عن كلّ ما حولنا وتدلق نحونا شلاّلا من العطر فنحسّ بغياب خالص معا كما لو أنّنا ننفلت من قيد ونلوذ ببراح يمتدّ بالغا فينا دون أن نشعر أنّ هناك من يراقبنا أو يتعقّبنا أو يترصّد شفاهنا خلسة . رائحة البنّ المنبعث من فنجانينا كانت لذيذة جدّا تورق ما يشبه الحلم . تدبّ فينا حميمة كالسّهو وتريقنا دفقا بطيئا حتّى نتهالك دون ضابط ونقول كلّ ما يعتمل في صدرينا من هواجس شتّى .

( 13 )
( ... كان أبي يتلهّف الرّحيل . خنقته تلك المدينة وأغلقت دونه أبوابها وسحبت منه كلّ منافذ رزقه وما عاد قادرا على تحمّل سخريّة القادمين الجدد وهم يتطاولون عليه ويرون فيه ما يشبه الفوات والحمق . ترمّل في حزنه لشهور كانت قاسيّة عليه وباغتنا ليلتها بقراره الأخير . لن أستمرّ هنا . سأجد شاريا لهذه الفيلا وسأهرب بجلدي ...
- هناك بعيدا سنكون أفضل حالا .
ببساطة ودون أن ينتظر منّا ردّا ما حفر قراره فينا . يبدو أيضا أنّه كان يوهمنا بالبحث عن شخص حتّى يبيعه الفيلا . ظلّ دائما ذلك الرّجل الّذي لا يفضي إلينا إلاّ بنصف الحقيقة وغالبا ما تكون محرّفة أو قريبة من أصلها حتّى لا نجد منفذا إليه . يدفعها إلينا سائبة فلا نتمكّن منها إلى أن يفعل ما يريده . أمّي لم تكن تلك المرأة الحريصة على ولوج صدره واكتشاف ما يخفيه . ظلّت تحاذيه دائما وتتواطأ غالبا ولا تحمّل نفسها عناء مواجهته أو اللّهاث خلفه حتّى تدركه وتمسك بنواياه . هل كانت تخافه ؟ هل كان يريدها أن تقف في وجهه ولو مرّة كي يجد مخرجا للخلاص منها ؟ تبدو أسرارهما عديدة ولا يرغبان في حفر فجوة بينهما وإن كنت أحسّها قائمة . أحيانا أشعر أنّني تلك الفجوة . يتبدّى ذلك في وجهي على المرآة . لماذا لا أشبه والدي ؟ أين ملامح أمّي فيّ ؟ ما هذا الشّعر الأصفر المتراكم على كتفيّ ؟ عيناي زرقاوان ؟ كان ذلك يؤرّقني لعدّة سنوات . أمّي أوهمتني أكثر من مرّة أنّ جدّتها كانت فاتنة جدّا . تشبهني تماما . أبي وصف لي في اقتضاب ملامح أمّه ونّاسة . قال عنها إنّها شقراء جميلة ولم تورثه إلاّ قامتها المديدة .
ابتلعتني شكوك لا حصر لها وأنا ألاحظ كلّ ما يصدر عنهما حتّى أدرك خفاياهما . كانا يتحدّثان أحيانا همسا . يتحوّل ما يدور بينهما إلى ما هو يوميّ مبتذل لحظة جلوسي على مقربة منهما . بدأ شكّي يميل إلى أسئلة كثيرة لم تخطر لي على بال . هل أنا ابنتهما حقّا ؟ هل عثرا عليّ مقذوفة تحت جدار ما ؟ هل جلباني من قرية بورقيبة ؟ ماذا لو تخلّى والداي عنّي ووهباني إليهما ؟ أين إخوتي الآخرين إذا كانا قادرين على الإنجاب ؟ لا أظنّ أنّهما اكتفيا بمقدمي ؟ عادة ما يسعى رجل مثل أبي إلى تكوين أسرة وفيرة العدد ؟ ألا يحبّ طفلا ذكرا من صلبه ؟ صارت شكوكي متراميّة جدّا . بلغت حدّا غريبا . ما يشبه الهوس صار كظلّي . يطاردني في كلّ موقع أطأه .
وقرّرت كشف الحقيقة مهما سابت بين شفتي أمّي وصرامة أبي وصمت جدّتي الّتي لا أراها إلا في ما ندر . كانت دائما تقيم في غرفتها ولا تهتمّ لأمري إلاّ لماما ولا تحسن إلاّ نهري وتوهمني بسلطة خاوية لا حسم فيها . هي بدورها كانت بالنّسبة لي كومة من الأسرار الّتي تحتاج نبشا عسيرا . والمسنّ يعود بي إلى خرافته الّتي يحفظها عن ظهر قلب بعد كلّ هذه السّنوات أحسست بوشيجة بهذه المدينة . كانت الحنّاء وهي تتراكم على قدمي إلى أن غطّتها مع رائحة الياسمين المنبعثة من كلّ مكان تضمّد فيّ شرخا بعد آخر وتهبني إلى قطيعة مع ماضيّ الّذي عشته في تلك الفيلا . بقيت أنت فقط في الذّاكرة . لم أقو على محوك . كما لو أنّك محفور فيها ولا يمكن لأيّ قوّة مهما كانت أن تجتثّك منها ... ) .

رشفت شيئا من بنّها ونفثت بشكل غزير إلى أن غمرتني ...
ماذا تنوي ؟ هل رامت ما بي حتّى تربكني ؟ إنّها تروي شيئا يشبهني . كما لو أنّها تبذرني وتحرثني حتّى تصير مثلي . نفس النّبت الشّوكيّ يتفرّع حولنا ويحيطنا من كلّ جهة . أيدينا تراخت وثغرها يمضي في فواتي ويعيدني إلى نفس الخطوة الّتي حاولت حدفها دون جدوى . ما معنى أن تمضغني هكذا وتتسرّب إلى حزني وتذروه في خصبها من جديد فيعاود فلق الأرض ويباغتني دون أن أدري . لم أع كيف امتدّت يدي إلى قارورة الويسكي وجذبتها من بين قوالب الثّلج الّتي أحاطتها في عسر . سكبت ما استطعت في كأسي ودلقت السّائل دفعة واحدة في حلقي وحاصرني ما يشبه الخوف وهي ما تنفكّ تهذي قبالتي . عرق غزير كسا وجهي وصار لزجا على صدري . تركتها وولجت إلى الدّاخل ووقفت تحت الماء أتهجّى هطوله على جسمي وهو يقشّر سمكا ما منّي ويقتطع زوائد نمت على جلدي حتّى أصفو ولو للحظة ممكنة . عدت إلى الشّرفة مبلّلا وتهالكت أمامها ودلقت كأسا أخرى في حلقي . مسافة صمتها وهي تترصّدني كانت تشبه قطيعة لم تكتمل . هل أوجعتها وأنا ألوذ منها بالماء . هل جرحتها شفتاها وبدت كامدة ؟ تملّتني إلى حين كما لو أنّها ترسم مسالك أخرى إليّ وابتسمت في حزن شرس . ماذا تريد من ورائه ؟ إنّها كمن يسعى إلى خلاص لم يحن بعد الحسم فيه . ابتسمت بدوري . أحسّت أنّني أمحو شراسة حزنها وهي تغرق بين يديّ . امتدّت يداي إليها وشدّت كتفيها في حميميّة مسربلة برهبتي منها حتّى تستردّ تداعيها دون أن تقيم حاجزا بيننا وتهرب إلى مقاصد أخرى أكثر ولوجا . دفعت إليها بكأسها فلامست أصابعي في رجفة كطعم السّائل في حلقي . ألهبتني لثانيّة وآبت إلى تفاصيلها من جديد . تتّبعت مجاهل الحكاية كجدّتها الّتي كانت ملاذها قبل حصول قطيعة غريبة بينهما . نظرة خاطفة منها أهملتني على وقع ثغرها الرّحاق وهو يعتمل لذّة طيب وخمر :

( 14 )
( كنت كمن قبض على الوهم ...
لم يكن لسؤالي مخرج إلاّ ذلك التّوقّع البغيض . كان عليّ أن أكتفي دون سعي أو حفر في مكامن مرعبة . ما معنى أن أشكّ في أمّي وأمضي في مساحة ملغّمة ؟ كيف لي أن أستبيح لهفة أبي للصّمت وأورّق ما خفي ؟ هل كان ذلك مجرّد نزوة ؟ لنعد إلى تفاصيل رحيلنا أوّلا حتّى يلتئم الحكي فأسحّ دون أن ينقطع النّطق وأكون سجواء ليّنة فلا يضيع منّي السّعي أو ألتبس عليك فلا تشجني بك وإن أسرفت وتماديت .
أبي كان يتضاءل خلف آخر عندما يتركنا ويغيب لكنّه يتبدّى أمامنا ذلك الآمر النّاهي حين يعود . يتحوّل إلى زعاق في حلقي لكنّه سرعان ما يهمد حين يتأكّد أنّ البيت على ما يرام ولا خوف من قاطنيه . يتراءى لي أحيانا وهو يعجن رهبته على وجهه إلى أن يفرغها من مزالقها الممكنة . يستوي واقفا بعد ذلك واثقا من الدّنيا ويأمرني بأن أعدّ له نرجيلته وفنجان بنّه المعهود . عادة ما يجلس حذو شجرة الياسمين . يتظلّلها ويهيم في كتاب شعر أو صحيفة نحو ساعة أو أكثر . مع بداية اللّيل يتناول العشاء ثمّ يلج المطبخ . يخرج علب البيرّة الباردة وينصرف إلى أقصى الحديقة . يجلس تحت شجرة الزّيتون وينهمك في الشّرب . لم يطلب منّي أو من أمّي ولو مرّة واحدة وضع البيرّة في الثّلاّجة أو إخراجها منها. يقوم بذلك في صمت كما لو أنّه يشير إلى أنّ هذا الأمر شخصيّ بحت ولا علاقة لنا به أو يضمر أنّ غضّ الطّرف لا مفرّ منه ولا فائدة ترجى من إزعاجه . أمّي الّتي تصلّي دائما ولا تتوقّف عن ذلك مطلقا ولو ليوم واحد ظلّت تنظر إلى البيرّة في استياء سرعان ما يغيب لحظة ظهور أبي . مرّة رأيتها تمسك علبة بيرّة وتتمعّن فيها . قرّبتها بعد ذلك من جبينها ومرّرتها عليه وتلذّذت تلك البرودة لثوان ثمّ عاودت النّظر إليها . بصقت عليها وأعادتها إلى مكانها . هل كانت تكتشف طعمها أم أنّ حرارة الصّيف أيّامها كانت شديدة . لعلّه دوار أصابها فكمّدته حتّى يرحل عنها . وهي تستدير فوجئت بأبي خلفها . هربت بعينيها وتسلّلت مبتعدة عنه. بدا لي أنّهما يدوسان أرضا هشّة والصّمت القائم بينهما هو ذلك الجزء الصّلب الّذي يحطّان عليه فلا يغوصان إلى أسفل . كلاهما خائف من الآخر . متربّص به . يحاذيان تلك المسافة الخطرة بينهما ولا يقتربان من بعضهما حتّى لا تثور عاصفة أو بما يوحي أنّهما قد يتهالكان ولن يتمكّنا بعد ذلك من الوقوف...
ظلّت أسرارهما توقا بالغا حاصرني حتّى أطبق عليّ وقرّرت أن أكشف المستور كلّفني ذلك ما كلّفني ... ) .

كانت ليلى وهي تتهالك مع كأسها الخامسة كمن غاب في صحراء ...
وكنت قبالتها كمن يمضغ الرّمل ويسعى إلى حفنة ماء حتّى لا يختنق ويموت ...
نفس الوجع المضني يتحوّل إلى ملح عند طرفي شفتيها وأنا أزيل بلساني بياضه الحادّ من فمي حتّى أقوى على متابعة حكيها . نزعت عنها ثوبها في قلق . الحرارة ليلتها كانت عالية جدّا . كدت أطلب منها الخروج إلى البحر . طعم الويسكي في تلك الشّرفة كان آسرا . لم أجد خيارا إلاّ البقاء . بدا لي أنّ طلبا مثله سيقضّ تلك الوشيجة العاتية الّتي جمعتنا بعد غياب طويل . من الحمق أن أردي تداعيها وهي تتخلّص من أثقال ضربت في صدرها حتّى تأزّفت بها وما عادت تقوى عليها . إنّها تنتزعني أيضا من رجسي وتذروني بعيدا كي أهشّم ما تبقّى فيّ دقاقا وأخطو إليها دون أن أقع مرّة أخرى . رخمت كأنّها آبت من براح وردحت ثمّ ترمّمت إلى أن بلغت شفتيها :

( 15 )
( - كنت كمن تقف في شدّة ريح نفخت حتّى ثار غبارها وترابها وأطبقت فصارت عمياء وأقامت أسوارا حولي فما عدت أرى إلاّ عتمة تركم عتمة خلفها .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حيزي

محمد حيزي


ذكر
المواضيع والمشاركات : 9
الجنسية : تونسيّة
العمل/الترفيه : أستاذ
تاريخ التسجيل : 27/09/2010

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: رد: حرير وجد   حرير وجد Uhh1017/12/2010, 3:58 pm



لذلك محوت ما غلّفني وانسللت في حيطة حتّى أرى وجهي مرّة أخرى خارج الفيلا وجدرانها العاليّة . قصدت عمّتي الّتي أوصدت دوننا بابها من سنوات مضت لأستجلي أمرها وأدرك قطيعتها لأخيها . لعلّها خرفت ولن تجد سببا ما حتّى تخفي ما يجيش في صدرها وقد تغضب فتتقيّأ كما اتّفق . خرجت صبيحتها ولم أقصد المعهد . توجّهت مباشرة إلى بيتها المترامي . كان قد تركه لها زوجها منذ سنوات بعد أن ارتبط بها على كبر ومات فجأة دون أن يقع في مرض أو أعراض . البيت ذو القرمود الّذي فقد ألقه قدّمه الاستعمار الفرنسيّ لزوجها المخبر " القوّاد " لخدماته العديدة . من عايشوه توفّي أغلبهم لكنّ وصمة عاره ظلّ يتناقلها النّاس . رغم خزيه ودناءته تحوّل بقدرة قادر إلى مناضل أحبّ وطنه وقاوم من أجله وذاد عنه . اسمه كتب بخطّ غليظ على رخامة وسط حديقة البلديّة مع آخرين مشكوك فيهم أيضا . تقاضى منحة شهريّة إلى أن مات كما كانت تصله بين الحين والآخر حوّالة من فرنسا . تواطؤ غريب ظلّ قائما إلى الآن. لا أحد حاول النّبش في ذلك الماضي. كلّهم يعرضون عن ذلك ولا يهتمّون . كما لو أنّ لا فرق بين مناضل وقوّاد . هناك قلّة منهم مازالوا أحياء . الموت يحسم كلّ ما فات ولا معنى لأولئك الّذين ضيّعوا أعمارهم من أجل هذه الأرض . المال وتلك الأوسمة النّحاسيّة تكفي لقطع دابر هؤلاء . عليهم فقط بالصّمت ومضغ الفوات ولا شأن لهم بما يحصل . أحيانا نفيض دون أن نعي ذلك. ها أنا أعود إليك من مهرب موجع . عمّتي كانت امرأة مهووسة بعدّة أكاذيب . كأن تقخر بزوجها وتروي عنه صولاته وجولاته في الجبال والأوديّة وتصف كمائنه لجيش الاحتلال وما ألحقه به من خسائر في العتاد والعدّة وتدمع عيناها فجأة وهي تذكر تلك الرّصاصة الّتي أصابته تماما حذو القلب وكادت تقتله . تروي عديد الأحداث وحسرة تغلّف نطقها . دائما ما يكون زوجها سي علاّلة هو العقل المدبّر وأوّل من يهاجم العدوّ ويربكه . تبلغ أوج فخرها به وهي تحبك عشرات القصص الّتي تنقص أو تزيد حسب حاجتها ونواياها وأكثر من مرّة تنسى تفاصيل مهمّة وتأتي بغيرها وتسقط في خلط عجيب كأن تذكر أمكنة لم تحصل فيها ولو معركة خاطفة . مزاجها يتعكّر بسرعة إذا أشار أحدهم إلى خرم ما في رواياتها الملوّنة . هذا ليس مهمّا لكنّه يصل بين ما يمكن أن ترويه عن أبي أو أمّي وإن كانت أكاذيبها محصورة دوما حول بطولات سي علاّلة ومقالبه ودهائه وذكائه الخارق . كراهيّتها لأمّي لا يمكن أن تتحوّل إلى بغضاء أو ما شابه ذلك لكنّها قد تكون أقرب إلى وجع بعيد بعد سنة من زواج أبي . دائما ما تشكو أمّي عمّتي ونادرا ما تلقي عليها شتائمها إذا كان أبي غائبا . ذلك يحصل بينها وبين نفسها عندما تتملّى صورتها في قاعة الجلوس دون أن تتجرّأ يوما على انتزاعها . قد تكون خائفة منها لذلك لم تسع إلى البصاق عليها مثلا . تكتفي دائما بشتيمة تتفرّع إلى مفردات مربكة وتلتفت خلفها حتّى لا يفاجئها أبي . إنّها ترهبهما معا . أحيانا لا تنفض الغبار الّذي تراكم على الإطار الّذي يحمل صورتها مع أبي . تتناساه ليوم أو اثنين لكنّها تمرّر عليه ( الغوله ) سريعا لتترك خطوطا دقيقة على بلّوره ليوم آخر . تتوقّع أنّ أبي سيلاحظ ذلك . حينها تمسك بخرقة مبلّلة وتمحو البلّور خطفا . تبتعد عنه قليلا . ترى الغبار قد تحوّل إلى طبقة خفيفة تخفي ملامحهما . تتركه وتمضي لكنّها تتّجه نحوه بعد غيبة قصيرة وتزيل ما علق به . أراقبها كلّ مرّة دون أن تحسّ بوجودي . ذات مرّة انفجرت كما لو أنّ عمّتي تقف بلحمها وشحمها أمامها . بقيت لنصف ساعة وهي تتحدّث عن تاريخ العائلة الوهميّ وطالت كلّ الأكاذيب الزّائفة ثمّ غرقت بعد ذلك في نوبة بكاء طويلة . بكت في حرارة بالغة وتهالكت بعد ذلك على الكنبة وأغمضت عينيها إلى أن باغتها النّوم وتمكّن منها . هل أحسّت أنّها انتقمت منها ؟ ذلك تشكّل على شفتيها ابتسامة شفيفة وهي غارقة في شخير خفيف . عمّتي بدت ساخطة وعيناها كانتا حادّتين في الصّورة وإن أشاحت أمّي بوجهها عنها في استخفاف بها .
بلغت بيتها بعد أن قطعت مسافة طويلة . كنت أثناءها أستعيد تفاصيل عديدة وأحاول أن أتخيّر أسئلتي دون أن أكشف عن نواياي حتّى لا تذهب مباشرة إلى مقاصدي وتخفي حينها حقائق ما جرى من سنوات بعيدة . لم أكتف بذلك . قرّرت أن أثير غضبها . أن أتحدّث عن أمّي مثلا بفخر وخيلاء . حتما سيدفعها ذلك إلى مزالق ما كانت ترومها .
قدّمت لي كأس عصير دون أن تضعه على مقربة منّي . تريدني أن أترك الكرسيّ وآخذه بنفسي . كما لو أنّها تذلّني أو لا تراني جديرة بخدمة بسيطة كهذه . أن تحطّ الكأس عند يدي أمر قد يسيء إليها . قلق تفرّع إلى أكثر من شكّ لكنّه قام على شأن واحد . عمّتي لا ترحّب بمقدمي ولا تشجني بها إلاّ نظرة مستخفّة بي . كما لو أنّني لست ابنة أخيها الّذي عادته ولم تحاول أن تمدّ يدها نحوه ولو سهوا . قامتها المديدة كان توحي بمنزلة أرفع وشموخ هائل ونظراتها من أعلى توهم من يراها أنّها ضاربة في الأرض كزوجها سي علاّلة . لم أدفع يدي نحو العصير . نظرت إليّ جانبيّا كما لو أنّها تأمرني . ألا يكفي أنّها جلبته من الدّاخل حتّى أبدو أمامها مرفوعة الرّأس لا يعنيني سلوكها المبتذل ؟ دفعت الكأس بأطراف أصابعها حوالي شبر إليّ في انزعاج خاطف . تتّعبت حركة يدها في لا مبالاة وهربت بعينيّ إلى الحديقة الّتي غمرتها أشجار الكالبتوس الهائلة . شعرت بالكأس تمضي شبرا آخر على الطّاولة . التفتّ نحوها وابتسمت . صاحت في وجهي لحظتها :
- ألا تشربين العصير ؟
انتفضت ثمّ اتّزنت :
- لم أطلب عصيرا . أنت لم تسأليني . عادة ما تعدّه أمّي ويروقني لكنّني أكره تناوله خارج الفيلا . أريد فنجان بنّ إن كان ذلك ممكنا ولا أتوقّع أنّ هناك من تحسنه مثلها. هكذا بدأ تشنّج عمّتي يتشكّل وهي تتمعّن فيّ وتلقي بالعصير على مبعدة منها في غضب :
- أمّك مجرّد كذبة ولا تعني شيئا . قد تحسن إعداد عصير أو بنّ فقط . وأبوك حطّة ومجلبة للدّون وضيمي منه شديد بالغ ولا أتوقّعك إلاّ امتدادا مبتذلا لهما.
كادت تطردني لكنّها تردّدت فجأة . شعرت أنّها تستدرجني حتّى تربكني وتتمكّن من كبريائي أوّلا . بعد صمت مربك نظرت في وجهي :
- أمّك لا جذور لها . أقبلت من الشّمال إلى هذه المدينة وسرقت منّي أخي الّذي أرضعته اليمنى واليسرى . عامر ليس أخي فقط . إنّه ابني . اقتلعته من قلبي بلا رحمة وعجنت منه آخر لا أعرفه . لذلك أكره مريم وأتمنّى سحقها حتّى أستعيد ما تبقّى منه . كيف بلغت هذه المدينة ؟ أخجل البوح إليك بهذا ولا أقوى عليه حتّى لا أخرمك . أنت لا أكثر من ضحيّة لقصّة حبّ مبتذلة لن تدوم لأنّها قامت على الخطيئة ... ) .

تركتني ومضت . عادت بعد لحظات في ثوب خفيف . لعلّه الحرّ وإن تحامقت . عليّ أن أكون متّزنا حتّى لا تتهالك اللّيلة فجأة ولا أبلغ خفاياها . دلقت شيئا من الويسكي في كأسها ودفعته إلى شفتيها . لم أسلك مثل عمّتها وإن لم أضف قالبا أو اثنين من الثّلج في كأسها . أخذت الملقط ورفعت قطعة منه . ابتسمت وحطّت رجلا على رجل :
- أفضّله هكذا .
دلقته دفعة واحدة كما لو أنّها تستجير به . غرقت في عينيها . كانتا في رحابة الشّاطئ القريب . زرقتهما هادئة ثائرة . لا وسط فيهما . متطرّفتان بشكل بالغ . لم ألحظ أنّها تريدني أن أترك مكاني لكنّها بدت لي مثل قطّة شرسة . متوهّجة جدّا . تماما كنار حارقة . قلبي كان ينتفض لها . يعود طفلا كما كان . بكلّ نواياه الصّغيرة وأحلامه الخبيثة ولهفته المشتهاة . ذلك الطّفل المتحفّز إلى صدرها حتّى يكتشف استدارة نهديها ومدى لذّتيهما إن هو شدّهما بيديه معا وغابا فيهما إلى حين . إن هو مضى إلى شفتيها أيضا وحطّ فيهما وساب كما اشتهى .
أكاد الآن أستعيد ما حصل بعيدا . الآن صارت أبهى . قبل هذا كانت أنقى وأبلغ . كانتا معا ليلى وها هي ليلى بعد سنوات بين لين وشدّة . نفس الطّفلة تتوارى خلف أخرى أكبر قليلا . ذلك باد في أسر كالجنون . نفس الخصلة تخفي جبينها لولا هذا النّسيم النّحيف الّذي لم يحفل بي . رعشة خفيفة باغتت أصابعي وهي غارقة في كلمها . أكان عليها أن تتداعى هكذا ؟ ألا ترى أنّ هذا يجرحني ويريقني نحو أمس أسعى للخلاص منه ؟ إلى أيّ متاهة تريد أن تأخذني وأنا قد غادرت بعد تلك المدينة الهالكة ؟ بدا لي الويسكي أكفّا تصفعني داخلي . تلطمني إلى حين مستراب وتحدفني إليها . كيف لمسهّد مثلي أن يستمرّ لليلة وهو يهتك أسرارها ؟ تراءت لي كمن يفكّ خيوطا دقيقة عن جسد مهمل يفيض بحرارة لا مثيل لها كي يرسم ملامح متعدّدة لشهوة واحدة تروم أكثر من مسلك حارق ...

( 16 )
( - حاصرتها أسئلتي والتبست عليها حتّى ضاقت بي . مرارة ما كانت تلهب نطقها وهي تطوّقني بعينيها في حدّة .
فجأة بلغت ما كنت نويت :
– لقد جلبها من مكان قذر وحطّ من عراقة العائلة وبلغ بها الحضيض .
تمكّن منّي خرس فاجع للحظة كافرة وتملّيت وجهها لحين كسير:
- تقصدين الماخور ؟
تلعثمت ثمّ فرّت إلى آخر الحديقة وكادت تختفي . فقط ظلّ جسمها حذوي يرتعش للحظات مدبرة في توجّس حاقد :
– نعم . من ماخور . أحبّها ذلك الأحمق ونفض عنها خزيها وكذب علينا لنصف سنة حتّى اكتشفنا أمرها صدفة . فعلها ببساطة وخان أصله الطّيّب كما لو أنّ مسّا أصابه وتزوّجها عن طيب خاطر .
فقدت نطقي لحظتها وهي تنتزعني بعينيها وتلقي بي خلف سور بيتها . انحدفت نحوها بكلّ جسمي حتّى كدت أتضاءل وأمّحي وعيناي في عينيها :
– وأنا ؟ من أكون ؟ ... )

امتلأت عيناها وتدفّقتا . موجتان أقبلتا نحوي . دفعت يديّ إليهما وأوقفت مدّهما حتّى لا تتهتّكا في غفلة منّي . شددت رأسها إلى حضني كغريق وضممتها إليّ في حميميّة عاليّة . بدا نشيجها سكاكين تمضي فيّ وتقتطعني . دمي ساح حولها وسرى في جسدها حتّى صارت منّي . تحوّلنا إلى واحد في لحظة مريرة وواجهنا ما يشبه الذّبح . تهالكت دموعي منّي كنزيف حادّ على شعرها الغابيّ . مضت مع سنابل قمح استوت بعد حتّى طالت عنقها ووجهها وصدرها . تحوّلت الشّرفة الهادئة إلى نشيج كتيت . نظرت في وجهها . كانت دموعنا متحرّقة كأجّة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حيزي

محمد حيزي


ذكر
المواضيع والمشاركات : 9
الجنسية : تونسيّة
العمل/الترفيه : أستاذ
تاريخ التسجيل : 27/09/2010

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: رد: حرير وجد   حرير وجد Uhh1017/12/2010, 4:00 pm



شديدة . للحظات طوقّنا صمت مديد وملحنا يعرّش بيننا نوّارا نديّا . هل كان علينا أن نبكي إلى ذلك الحدّ حتّى يلتحم جسدانا أخيرا ونحسّ معا بخدر آسر . حملتها بين ذراعيّ كلهفة متّقدة وغبت في الدّاخل . أمواج الشّاطئ القريب كانت قد ثارت بعد واخترقت كلّ ذلك الصّمت القائم . رائحتها كانت غيبوبة تتستّر وراء حلم كاليقظة الضّاربة في غياهب متوهّجة لا تستكين :
( ح )
( بلغ ربوة صغيرة أخيرا . هل هو مصطفى الضّاوي أم أبي ؟ هل هو أبي أم مصطفى الضّاوي ؟ رجلان يحتويان قلقي ويغرقان في سؤال لا يريد أن ينطق على شفتيّ الميبّستين وطيني الّذي لا يريد أن يصير مسالك إليه حتّى أبلغ الرّبوة . فجأة سابت قدمي وانزلقت إلى سفحها . قواي خارت وهو جالس أعلاها ولا أرى إلاّ قفاه . تمسّكت بنبت شوكيّ وانهمكت في الزّحف على بطني . انغرس الشّوك في أصابعي ونزّ دمي وأنا أمضي إلى أعلى دون أن أكترث لذلك . هو على مسافة خطوات منّي الآن هامد لا حراك له كما لو أنّه جثّة . خطوتان فقط ويدي تكاد تمسك به وتجذبه إليّ حتّى أرى وجهه أخيرا . أردت أن أصيح فيه فلم أجد صوتي ولهاثي يدبر إلى رئتيّ . اختنقت وأصابعي المدماة على شبر منه . فجأة انتصب واقفا ومضى مع المنحدر الوعر وغاب عن عينيّ . دسست وجهي في الطّين وتنفّست الوحل حتّى أستعيد أنفاسي ثمّ رفعت رأسي وواصلت الزّحف ... )




















صباح الخير يا ليلى :ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقّ الصّباح كأمّ ولذّت قبلة على الجبين ...
رفّت كعصفورة نحوي وخيوط الشّمس الأولى تقبل من النّافذة مضمّخة بطيب البحر النّديّ . كانت اللّيلة بهيّة جدّا وكانت ليلى قد تفحت . ها أنا أوّل رجل ينام معها . بدا لي ذلك غريبا . أبعد كلّ هذا الغياب تستمرّ كما هي ؟ كيف لها أن تورق منفردة دون أن يبلغها أحد قبلي ؟ بقدر ما دهشت كنت كمن ولج الدّنيا لتوّه . اقتربت من النّافذة وفتحتها . جذبت نفسا عميقةحتّى امتلأت رئتاي ثمّ أطلقت ركاما من الأغبرة والدّخان حتّى صفوت ...





دلفنا إلى ساحة ثمّ ولجنا مقهى . بدت لي مرّة أخرى كما لو أنّني جلست فيها من قبل . كدت أسأل ليلى عنها لكنّ النّادل سرعان ما باغتنا لحظتها .كنت قد عدت من الشّاطئ وأيقظتها من نومها . بقيت لنصف ساعة أو يزيد تحت طشاش خفيف . كان الماء باردا لكنّني شعرت بدفء وحنوّ لم أعهدهما من قبل . كما لو أنّ عشرات الأيدي النّاعمة تتسلّل تباعا إلى جسمي وتزيل طبقة سميكة من الأغبرة الّتي تمكّنت منّي قبل وصولي إلى هنا . ماذا حصل لي ؟ هل هي ليلى تقشّرني من تلك المدينة الّتي احتضنت لعنتها عن طيب خاطر ولم تكترث لرائحتها المنتنة بعد ؟ هل هو جسد ليلى الفاتن وهي تهبني ما لا يوهب إلاّ مرّة واحدة ؟
وأنا أتوقّع أكثر من لحظة وارفة باغتني حينها عامر الوافي بكلّ تفاصيله السّرّية . كانت ليلى قد أرجأت حكيها للّيلة المقبلة . عمّتها ظلّت تلك الكوّة المقيتة الّتي جازفت وخطت فيها دون أن ترهبها لكنّها نيّبتها عميقا حتّى تصفع أباها في حدّة وتوقع بأمّها في هاوية . تمنّت لو لم تزرها . لو لم تغضبها . لو لم تشحنها حتّى تنفجر في وجهها بذلك الشّكل القذيع .

( 17 )
( ... كلت لها الشّتائم تباعا . حدّثتها عن ماضي سي علاّلة المزيّف وقلت لها إنّه دون قوّاد ومرّغت تاريخه الفارغ عند قدميها . كنت كالمجنونة يومها وأنا أصف بيتها بماخور وطنيّ . هنا كان الجنود الفرنسيّون يستقبلون سي علاّلة ومعه الأخبار عن المقاومين وأين يكمنون . ظلّ طيلة سنوات رخيصة يجلب لهم النّساء ويكتفي بقارورتي خمر في الحديقة . ينتظر قضاء حاجاتهم ثمّ يعود بهنّ إلى بيوتهنّ في ساعة متأخّرة من اللّيل . ظلّت مسمّرة دهشة من كلّ ذلك . كيف اخترقت بهرجها وتجمّلها ؟
كانت أمّي الّتي حصلت على الشّهادة الابتدائيّة من سنوات خلت تهرب إلى غرفة منزويّة في الفيلا وتكتب كلّ ما يجيش في صدرها كما كان أبي بدوره يجلس إلى مكتبه ويلوذ بدفتر بنّيّ الشّكل تقادم من فرط استعماله . لم أفهم انزواءهما وغرقهما في الكتابة بذلك الشّكل السّرّيّ ؟ لماذا خيّرا الصّمت واكتفيا بالحبر ولاذا به ؟ بينهما كانت الأحزان تعوي وما يشبه العويل ظلّ يعرّش في الخطوات الفاصلة بين غرفتها ومكتبه لعدّة سنين وكان عليّ كشف كلّ ما يحصل . تورّطت في التّسلّل إلى أسرارهما شيئا فشيئا وانهمكت في يومياتهما إلى أن اكتشفت ماضي سي علاّلة المجيد وأسرار عمّتي البغيضة . بقيت أترصّد كلّ ما يضيفانه لكنّني لم أعثر على ضالّتي . ظلاّ يخفيان ما يعنيني طيلة سنوات كما لو أنّهما يتوقّعان وصولي إلى دفتريهما ولم أدرك سببا واحدا يدفعهما إلى تدوين كلّ تلك الحقائق المرّة . هل كانا يريدان من وراء ذلك الخلاص من كوابيس عاتيّة ذبحتهما أم كانا يواجهان وقائع بعيدة في خرس بال دون أن يلجا ولو حربا قصيرة المدى ؟ هل كان ذلك مجرّد نزوة أم يسعيان إلى فضح خفايا عديدة نالت منهما ولم يجدا مسالك أخرى إلاّ توريتها إلى حين . لعلّهما كتبا كلّ ذلك حتّى أعثر على أسرارهما يوما ما وأكتشف حقائق غائبة عنّي . وجهات عديدة تشكّلت أمامي وأنا أسطو على وقائع حصلت وأخرى لم تحبّر بعد . كنت أنتظرهما لمدّة كافية ثمّ أتسلّل حتّى أعثر على تفاصيل جديدة . ما أدهشني أنّ أمّي توحي بأنّها من عائلة ضاربة في العراقة . هل يمكن أن تكون كذلك فعلا ؟ كيف لحفيدة مثلها أن تنتهي كما اتّفق في ماخور ؟ هل يعقل أن يحصل ذلك ؟ إنّها تكاد تجزم بأصل تليد . لها جذور عميقة كما تدّعي ؟ هي السّنوات الحاقدة والنّهايات المفجعة الّتي تباغت الدّماء الطّاهرة وتريق ماء الوجوه المنيع دون وزن أو اعتبار . إنّها تفرط في نسبها إلى أن بلغ منّي الإرباك مبلغا عجيبا . تقول إنّ جدّها كان ...؟ لن تصدّق هذا الهراء . من عاش تلك الحظوة لا يمكن أن ينتهي به الأمر إلى منقعة . إنّها تتجمّل في غربتها وحزنها دون أن يهتمّ لها أحد . تحتفي بكذبتها كما فعلت عمّتي بيّة طيلة سنواتها الفارطة وهي تتورّط في ماضي سي علاّلة المجيد . المرأة مخلوق غريب حين تباغته العزلة . من فراغ ذابح تؤثّث فقدها يوما بعد آخر حتّى لا تترمّل في وجعها وتنتهي . لهفتها تترصّدها مع كلّ ليلة تنام فيها بمفردها . لن تترك للفراش مزيدا من العواء . إنّها تختزن قدرة عجيبة على المواجهة . تصدّق بسرعة ما تتوهّمه دون حاجة لإثبات . اللّعبة تروقها إلى أن تصير أحلامها وقائع حصلت بالفعل . بين عمّتي بيّة وأمّي وشائج مثل هذه . الأولى مفتتنة بماضي زوجها المليء بالبطولة والثّانية تبوح لنفسها بأصلها الضّارب في التّاريخ الّذي يعود إلى باي تونس قبل انتصاب الحماية بسنوات بعيدة . هي حفيدته أبا عن جدّ . هذا ما تدّعيه . شجرة العائلة الّتي احتفظت بها أمّها وحبّّرتها أضافت إليها اسمها ولقبها دون خجل من مصيرها الأخير قبل أن تلتقي بأبي عامر الوافي الّذي صار بدوره محلّ شكّ . التّضارب يتبدّى جليّا بين نسبي وملامحي الّتي أحملها . أنا بيضاء . أشبه حفيدة رومانيّة تاهت عن سبيل عودتها وظلّت هنا بلا وجهة . لا أشبههما إطلاقا . المرآة تقول هذا كلّما وقفت أمامها وتمعّنت وجهي وشعري وعينيّ الزّرقاوين . كلّما تفحّصت وجه أمّي عميقا ونلت منه . كلّما سحت في ملامح أبي الّذي يشبه الفاتحين الّذين قدموا من الجزيرة العربيّة ونشروا الإسلام في شمال إفريقيا . لعلّه أندلسيّ مطرود من أرض عشقها إلى أن غدرت به فعاد بأوجاعه وتراكم في تلك المدينة المحدوفة للجبال . ربما بربريّ ضيّع وجه جدّه يوغرطة وهو يصقل السّيوف والرّماح ويتأهّب لحربه مع روما الّتي استباحت أراضيه إلى أن قتل على المائدة أعالي مرتفعات الكاف بعد أن كبّد عدوّه خسائر لا حصر لها وهو يناور ويتربّص . ما أدهشني بعد مضيّ كلّ تلك السّنوات في الزّقاق ورحيلنا المريب إلى العاصمة وإصرار أبي على الإستقرار نهائيّا في مدينة الحمّامات ولقائي المربك بالشّيخ الوقور الّذي ظلّ ينتظر ظهوري المفاجئ في صبر غريب حتّى يكمل تفاصيل الحكاية الّتي لم تنته بعد هو شجرة العائلة الّتي تتمسّك بها أمّي وعجيبة اسم ليلى المتوارث . ذلك أنّ هذا الاسم محتفى به في هذه الشّجرة المبهمة ولا تخلو عائلتنا منه . كلّ أخواتها المتزوّجات لهنّ بنات يحملن هذا الاسم وإن تفرّقن في الشّمال والوسط والجنوب والصّحاري والواحات وضعن في قبائل عديدة هنا وفي تركيّة والشّام وقبرص والجزائر والمغرب ومصر والبندقيّة وبعض الجزر المنتشرة في حوض البحر المتوسّط . هذا ما يشحن ورقها من غصص تحوّلت إلى لطخات حبر كما لو أنّها تبكي لوعات عديدة للفراق ونهايات مدمّرة للعائلة المالكة أيّام العزّ والجاه . الشّيخ وهو يختلج كضائع بلغ مقصده بعد انتظار طويل ما ينفكّ يردّد حقيقته في انبهار وتوهّج : " – كان لا بدّ للحكاية السّرّية أن تكتمل مع قدومك إلى هذه المدينة . ما يروى على ألسنة الآخرين كذبة لا صدق فيها لأنّ العاشق الّذي امتلأ بليلى لم يقتل . الحرس من أوهم الباي بإراقة دمه على أيديهم بعد أن بكت ليلى دما وكادت تغرق القصر بمن فيه في بحيرة منه . خوفهم على حياتهم كان وراء إدّعائهم هذا أمام الباي الغاضب من تطاول تاجر الحرير وهو يتمكّن أخيرا من قهر الماء وجلبه إلى الحاضرة . لقد مسّ من كبريائه وهو يشترط عليه الشّرط الّذي رأى فيه مهمّة مستحيلة . ما أثاره أنّ عاشق ابنته استقدم الماء إلى شرفتها في القصر . حاذاها تماما وبلغ بالحنايا حدوده المترامية على علوّ من حديقته الخاصّة . ذلك أغاضه جدّا لأنّه بقدر ما أبهره صغّره أمام حاشيته الّتي رأت في تاجر الحرير فارسا وحيدا للأميرة الجميلة وما على الباي إلاّ الاستسلام وإقامة العرس في قصره كما وعد وأقسم أمام الجميع وابتسم بعد ذلك في سخريّة بالغة . بعد سنوات قصيرة زحفت الحنايا يوما بعد آخر نحو الحاضرة . كان سيدي محرز الّذي واجه البحر في غضب ومنعه من ابتلاع تونس في جوفه ومحوها من الوجود هو جدّ العاشق . من جملة أحفاده الكثيرين المنتشرين في شمال تونس وشرقها وغربها وعادة ما يهبّ إليهم إن هم وقعوا في ورطة ويأخذ بأيديهم إلى برّ الأمان . العاشق لم يكن قادرا على تحقيق شرط الباي الغريب . كان مندفعا لأنّ حبّه لليلى أبلغ من قلبه الّذي غرفه من صدره وحطّه على راحتيه حتّى تراه وهو ينتفض من شدّة وجده إليها . تلك اليدان المحدوفتان إليها كانتا سيدي محرز حتّى لا يتأذّى حفيده . كانتا كالحرير المراق وهما تنفلتان إليها . الباي ظلّ يشكّل ابتسامته السّاخرة ويستخفّ بمجانين مملكته الّذين يحاولون التّقرّب منه ومصاهرته . الدّم العثمانيّ كان يستفزّه حتّى لا تغضب منه أصوله الأولى وتحتقر منابته . كيف له أن يزوّج ابنته ذات الأصل الضّارب من تاجر حرير أحمق ويسيء للآستانة . قد يستأصلونه من كرسيّه ويلقون به في الصّحراء إلى أن يموت عطشا ويتعفّن هناك ويكون عبرة للآخرين فلا يقترفون نفس الخطإ البغيض . لم يجد من فكاك إلاّ فكرة الحنايا كمهمّة لا تخطر على بال مجنون . دهش لأمر العاشق وهو يقبل بعرض مستراب كهذا أمام الحاشيةأوّل الأمر ثمّ غرق بعد ذلك في ضحكة عالية ردّدتها جدران القصر المترامية . هكذا تشكّلت ملامح الحكاية الّتي يعلمها القاصي والدّاني لكن خفاياها الأخرى محصورة بين حيطان هذه المدينة . لا أحد تمكّن منها سواك لأنّك جزء منها . تكملتها وروحها وطعمها ورائحتها . أنت عمقها ولعلّك ختامها واستمرارها ومسالكها إلى القادمين . من رحمك الطّاهر ستزهر بنت أخرى تحمل اسمك . قد تكون حفيدتك . روحك لن تغادر الحمّامات بعد عمر طويل في أحضانها . ستحلّق هنا في غدوّ ورواح إلى أن تستقرّ في جسد هو منك . قد تنتظر طويلا كما انتظرت روح ليلى بنت الباي جسدك الجميل هذا لتتغلغل فيه وتستكين إلى حين . قد تعجبين من تفاصيل الحكاية وهي تمضي فيك كحلم .. كماء .. كهذه الرّائحة الّتي يفرزها الياسمين .. بينك وبين ليلى وهذا الدّفق المتسلّل من المدينة أسر يعتمل كالومض في قلوب الأهالي العامرين عميقا برحلة العاشق الّذي حلّ بعد طواف هنا واستقرّ مع حبيبته على المشارف القريبة أين كان ينتشر الكالبتوس والبرتقال واللّيمون وخلايا النّحل . هناك أقام قصرا يليق ببنت باي . هو لم يقتل . الأغراب هم من يروون هذا بعد أن انطلت عليهم الحيلة . الحكاية أبلغ من لغوهم . نحن فقط من يمتلك الحقيقة . أجدادنا احتفظوا بها ولم يشيعوها بين النّاس خوفا على الحمّامات من المحو . إنّها سرّها وألقها إلى يومنا هذا ولا يمكن أن تتسلّل خارجها . من يلجها من الأغراب يصيرون منها لأنّها تتوغّل فيهم كالحلم وتقتلعهم من مدنهم الأولى وترمي لهم جذورا فيها . سفرهم عنها قصير وحرقتهم للعودة إليها بسرعة ضاربة في قلوبهم . لا يهنأ لهم بال إلاّ لحظة ارتمائهم بين أحضانها من جديد . هذه هي الحمّامات . من ارتوى بمائها يظلّ على ظمإ دائم إن غادرها . لن يحسّ بالعطش إن عاد . هنا يكمن سرّ بناء البرج أيضا . تلك فسحة أخرى للغناء والإحتفال بسرّ الحكاية . هبة الماء رحلة غريبة هنا . من شاطئنا القريب إلى زغوان فالحاضرة نسيج متصّل ومتاهة عشق آسرة . الحنايا فقط تقوى على سردها ولليال طويلة قد لا تنتهي أو تنخرم " . كان يتدفّق إلى ساعة متأخّرة من اللّيل . من أحجية إلى أخرى ساب في هسيس غريب . كنت كمن غابت في حكايات شهرزاد البعيدة والشّيخ يغرق في حكيه الفاتن ويوهمني أنّني ليلى وأنّ عاشقي لن يفرط في الغياب طويلا . بل هو على مرمى حجر منّي . لعلّه قلق مربك يستعيد ملامح طفلة رحلت فجأة من سنوات مضت وها هي تعود وتتلهّف قدومه بين يوم وآخر ... ) .

اللّيل مازال بعد نائيّا كعصب يتمدّد كلّما بلغنا بعضا منه ...
ليلى ظلّت غارقة في صمت متقطّع كما لو أنّها ترجئ ما تبقّى للّيلة المقبلة . بدت مسحوبة من يدها إلى مسارب مجهولة وتحتاج لمعالم مشتّتة حتّى ألئمها فتتبدّى لها مسالكها دون أن تتورّط في مهالك عدّة . هل كانت كؤوس الويسكي مطبّا وقعنا فيه دون أن ندري ؟ شعرت أنّني أحبّها بشكل مختلف عن ذي قبل . كما لو أنّنا نقتسم هتك هذه الدّنيا معا . كلانا يحمل أثقالا مدمّرة هدّنا بها آخرون ثمّ رحلوا بعد أن جنوا علينا . أثناء شهوة ونزوة جئنا هكذا . كأيّ نبت شوكيّ مسخ بعثونا إلى هذه الدّنيا . لماذا حصل ذلك ؟ هذا لا أكثر من سؤال أحمق وإن كان مربكا ويحتاج لإجابة زلقة . كأن ترتسم ابتسامات على شفاههم مثلا ثمّ يتوارون وراء صمت متواطئ . إلى أن يفقد السّؤال عمقه ويتحوّل إلى بلاهة أو مجرّد ثرثرة . كبور مهمل تحتدم فيه آثام مقلّمة . هذا نحن وسط لهاب ذابح وعلينا أن ندبر في هرب كالسّمّ ونبني أسوارا عاليّة لا يبلغها غيرنا . في غفلة ما علينا أن نرمي في الأرض جذورا مهما كانت واهية حتّى لا نسقط أو نراق . من باب خلفيّ إلى مسلك مهجور يمكننا أن نفاجئ هذه الدّنيا ونحفر لنا مصيرا آخر . تبدو هذه المدينة أرضا خصبة لبذرنا . هنا قد ننفلت من تحت تربة طاهرة وننمو في توثّب عميق .
كانت تتابع تيهي كلّ مرّة وتهرب معي إلى أحلامي الصّغيرة تماما كما عهدتها ونحن بعد طفلان . طوّقتها بذراعي وشتمت عبد الرّحمان العامري وعامر الوافي في سرّي ومضينا إلى البحر حتّى بلغنا الشّاطئ . بين عينيها وزرقته نبتت قصيدة وعرّشت مع ذلك الامتداد الآسر إلى أن بلغت حالة صحو حميم على شفتيها .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد حيزي

محمد حيزي


ذكر
المواضيع والمشاركات : 9
الجنسية : تونسيّة
العمل/الترفيه : أستاذ
تاريخ التسجيل : 27/09/2010

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: رد: حرير وجد   حرير وجد Uhh1017/12/2010, 4:03 pm



بقينا هناك إلى أن تهالكت الشّمس . كان الشّاطئ يتأهّب لغفوة كي يستردّ أنفاسه بعد يوم موغل في الطّول . أمسكتني من يدي فجأة . كانت يدها حارّة حريريّة مشبعة بطين سخن مربك :
- لقدحان موعد ذهابنا إلى البرج .
كما لو أنّها تبوح لي بسرّ أو تفكّك لي أحجيّة مستعصيّة . دهشت لذلك وأنا أخطو بجانبها . لا أنكر أنّ هناك رغبة تمكّنت منّي وذلك عائد إلى طريقة نطقها وهي تهمس لي مرّة أخرى :
- كلّ من يغادر الحمّامات لمدّة قد تطول أو تقصر عليه أوّلا أن يقصد البرج . المدينة مترامية ولهفة الصّعود إلى هناك حاجة تعتمل في القلب ولا يمكن لعشّاقها إلاّ تهدئة النّبض المستفحل فيهم كي لا يباغتهم ذلك الفراغ الرّوحيّ الموجع . لن تحسّ بهذا الآن . ذلك يحتاج لعشرة طويلة . عندما تزرع خطاك في هذه المدينة جيّدا وتهبك سحرها الخفيّ وتقمح فيها ستدرك أنّ الرّحيل عنها مهلكة تشبه ورما خبيثا سيقتاتك يوما بعد آخر إلى أن يأتي عليك ولن تبرأ منه إلاّ بعد عودتك إليها . ذلك سرّها ومكمن فتنتها . لحظة أوبتك ستسرع حتما إلى البرج حتّى تجوب عمقها وأطرافها .. شاطئها وخليجها .. قبابها وسطوحها وياسمينها ..
بلغنا البرج أخيرا . صعدنا مع مدارجه إلى أعلى . تيمّمنا بنّه كما لو أنّنا نلج صلاة المدينة في هدوء جليل . من سطحه تبدّت الحمّامات في تلك اللّيلة الحالمة كما لو أنّها بكر تهب نفسها لنبيّ خفيّ . أدركت لحظتها سبب وجود البرج وما يمكن أن ترويه لي ليلى عنه ولهفة القادمين إليه :
- كما ترى . المدينة متراميّة ولا يمكن أن نحتضنها بسرعة إلاّ من علوّ بالغ . كلّ من يتعبّدها من عاشقيها عليه أن يحلّق قدر ما يستطيع حتّى يكتشفها كما لو أنّه يزورها للمرّة الأولى . إنّها أشبه بصلاة . تكره التّأخير . تريد أن يتمّ اللّقاء بسرعة حتّى لا يبرد الشّوق ويتهالك وتموت القبلة الملتهبة بعد حينها .. أن تطبق الشّفاه على الشّفاه لحظة تسلّل الأصابع للتّحيّة رضاب لا يمكن أن يجفّ . إن لم يحصل ذلك بسرعة تصير الحمّامات مدينة عاديّة وبرجها لا أكثر من حجارة متراكمة . لذلك فإنّ البرج ظلّ مقصدا عجيبا .. متّسعا لأحضان حارّة تكره الانتظار إلى الصّباح أو اللّيل . هذا هو السّرّ وسأرويك ما تبقّى منه لأنّه أبلغ .
عدنا إلى الشّرفة مرّة أخرى واستعدنا بعد أن ارتوينا تفاصيل البارحة .

( 18 )
( ... كان أنيقا مديد القامة شهيّ العينين . نام معي ثمّ غادر في صمت غريب . تغيّب لمدّة أسبوع عن الماخور على غير عادته ثمّ باغتني ليلا . كان مخمورا جدّا . لم يطنب في الحديث إليّ . أمرني أن أترك هذا المكان فورا . غدا سيرتّب كلّ شيء وينتهي مقامي فيه بلا رجعة . كدت أرقص في ذلك الرّواق المفضي إلى غرف عديدة . فرحتي كانت بالغة إلى أقاصيها . سأغادر نهائيّا تلك الغرفة الموبوءة وأتحوّل إلى زوجة وأبني أسرة صغيرة وأنسى عاما مضى بكلّ قذاراته . قبل أسبوع كان عامر يبكي كطفل بعد أن دسّ رأسه في صدري . كان بكاؤه مرّا . وها هو يعود أخيرا ليأخذني . بدوت ضعيفة مهملة وهو يأمرني لكنّ فرحتي كانت كسرب حمام انطلق في فضاء رحب حالم كما لو أنّه ينعتق ... ) .

وضعت ليلى أمامي فنجان بنّ وتسلّلت إلى الدّاخل من جديد . بلغني وقع الماء على جسدها من الحمّام . ما يشبه ذرّات الرّمل كانت تتهاوى في الدّاخل وتندفع مع المجاري إلى وجهة مجهولة . بدت لي كما لو أنّها تتضاءل إلى حين ثمّ تتحوّل فجأة إلى مارد تعتع الجدران حولي . هكذا انفلتت من قمقمها مع دخان عاتم ثمّ انتفضت لتترك خلفها ركاما من السّواد والرّماد . مضت إلى الأمام في كبرياء دون أن تلتفت إلى الخلف . فقط ظلّت تحتفظ بدفتر أبيها وكرّاس أمّها . لماذا كلّ هذا الأتون ؟ لا أدري ؟ حريقان هائلان محبوسان على الورق ولهفة ماتت بعد أن عبرت أسرارا عديدة لا حصر لها . يوميّات كافيّة لهتك مريع لكنّها ظلّت واقفة كنخلة . لم تتهالك أو تنحني . رأسها مازال بعد شامخا نحو الأعلى وقدماها راسختان على أرض صلبة . دهشتي كانت تكبر مع كلّ صفحة أقلّبها . كيف لها أن تستمرّ وتقاوم كلّ ما وقع ؟ إنّها أقرب إلى شرسة . لذلك انتظرتني كلّ هذه السّنوات ولم تكب . كما لو أنّني توأمها أو ما تبقّى لها حتّى تروم ملامحنا معا ...

( 19 )
( ... عامر الوافي كان يعبدني .لم يكتشف امرأة ما قبلي . بعد أيّام قليلة تزوّجنا وتركنا هذه المدينة وقضّينا شهرا حميما لا يصدّق . لأوّل مرّة أحسّ أنّني أنثى معه . تحوّلت إلى حفنة حرير بين أصابعه طيلة غيابنا . لمّا عدنا كانت أخته قد نبشت خلفنا حتّى عثرت علينا . شتائمها ظلّت ترتدّ بين جدران ذلك البيت الصّغير إلى أن غادرناه إلى الفيلا الّتي ابتلعت كلّ ما أملكه من مال . بعد انتقالنا بأيّام تغيّر عامر . صار لا يهتمّ لأمري كما كان . بدا لامباليّا غارقا في صمت كالدّود . يتحرّك دون نطق . يشير دون قصد . يهذي في خرس وراء جدار عال . صرت أرهب منه . صمته كان مطرقة حادّة دائما ما تقع حذو رأسي وإن كانت تلامسه فقط دون أن تدكّه . هكذا تشكّل خوفي منه إلى أن صار شديدا . كان كلّ يوم يمضي يخلّف وراءه أثرا موجعا وكانت أخته تعمّق هوّة بيننا إلى أن اختفت وما عدت أراها . عادت إلى بيتها مخلّفة وراءها ألسنة نيران عاتية ظلّت تهتك شيئا شيئا أجمل ما فينا وتخلّف كومة رماد بعد أخرى خلفها مندفعة إلى قلبينا في لهفة عجيبة حتّى تقتل ما تبقّى ... ) .

أقبلت ليلى نحوي كعصفورة باغتتها نوبة مطر صيفيّة . انتفضت حذوي فانتشر طيبها مع ذرّات الماء . حدفت كرّاس أمّها على الطّاولة وأجلستها على ركبتي وغبنا معا . كان ضوء الشّرفة يتثاءب رويدا رويدا إلى أن غفا . وهي معي كانت رسالتها تستفزّني كي أدرك تكملة الحكاية على شفتي الشّيخ المهيب :

( 20 )( " - و
الأميرة تحفن الماء الّذي بلغ شرفتها كان الباي يصرخ في صمت حادّ : " كيف استطاع ذلك ؟ هذا لا يصدّق . هل الماء طيّع مستباح لأحمق مثله حتّى يذلّه ويبلغ به الحاضرة ويصله بقصري دون إذن منّي ؟ إنّه يعشق ابنتي ويستخفّ بي إلى حدّ لا يحتمل . يجب أن يقتل قبل أن ينتفض هذا الكرسيّ تحتي ويلقي بي إلى مهلكة وينتهي أمري كما اتّفق . الجميلات كثيرات في المملكة وكان عليه أن لا يرفع رأسه إلى أعلى . قد ينفصل عنقه فجأة . بنات الوزراء لا عدّ لهنّ إن كان يهفو إلى مجد أو جاه . كيف لتاجر حرير أن يفعل بي هذا ؟ " . كان غاضبا جدّا وهو يأمر حرسه في حدّة : " – اقتلوه . لا أريد أن أراه في قصري بعد اليوم " . حين بلغ ليلى أمر أبيها باغتتها نوبة بكاء لا عهد للقصر بها . كانت تبكي دما . دموعها تهالكت في ماء الحنايا الّذي فاض وتحوّل إلى أحمر قان وانسكب على أطرافها وساب في أنحاء حديقة القصر . الحرس كان يراقب ما يحصل في دهشة ودم الماء يبلغ أحذيتهم الجلديّة ويتسلّقهم . لم يجدوا من سبيل إلاّ الكذب حتّى ينجوا . اندفعوا في أزقّة المدينة إلى أن بلغوا بيته وأمروه بالهرب والإختفاء في مكان أمين . حدّثوه عن دموع ليلى وما يمكن أن يحصل إن قطعت سيوفهم عنقه . وعدهم بالرّحيل والتّخفّي عن عيون الباي إلى أن يهمد غضبه لكنّه اشترط عليهم أن يبلّغوا أميرته تحيّاته ووجده ولقاءه بها قريبا ... ) .

وهامت في تفاصيل البرج مرّة أخرى :
- البرج هبة الحنايا والبحر . هذا ما رواه لي الشّيخ وزوجته وسط رائحة الحنّاء والياسمين الّتي انتشرت تحت سقيفة . وسيدي بن عروس يغضب من تونس ويلوّح برميها في البحر بعد غضبه منها رجاه سيدي محرز أن لا يفعل ذلك وإن روى الكثيرون أنّه هو من منعه عن ارتكاب هذا الخطأ الجسيم . لمّا كادت تونس تتدحرج إلى البحر اندفع سيدي محرز إلى السّباسب العليا وجلس إلى أوليائها الصّالحين وشرح لهم مغبّة ما سيحصل . الكلّ هبّ معه واجتثّ ما أمكن من مرتفعات السّباسب واندفع معه إلى سيدي بوسعيد وشكّلوا ربوة عاليّة هناك حتّى لا يحفر البحر كوّة عميقة ويجتذب إليه تونس ويبتلعها نهائيّا ويمحوها . الرّحلة من الوسط إلى الشّمال كانت عسيرة لكن غصّة سيدي بن عروس كانت عالية لأنّ غضبه بلغ منه مبلغا مكينا وكان يستطيع أن يكبته . وهو يرى الرّبوة تعلو على مرمى بصره أدرك أنّ سيدي محرز يحمل قلبا عاشقا وسيورثه لأبنائه وأحفاده ولا خوف على مصائرهم .
- والبرج ؟
- هو هدية للعاشقين من سيدي بن عروس بعد نوبة غضبه وعودة سكينته إليه . كان عليه أن يباركهما ولم يجد من سبيل إلاّ السّموّ حتّى تشرف ليلى بنت الباي وفارسها على المدينة والبحر والحنايا .
- الحنايا ؟
- لن تتمكّن من رؤيتها . حافظو الحكاية ومالكوها هم من يقوى على ذلك دون غيرهم . ذلك سرّهم الدّفين .
- أليس هذا هذيانا ؟
- ستدرك ذلك قريبا وستدهش ما دمت لم تطّلع بعد على تكملة الحكاية .
وأغمضت عينيها كما لو أنّها تلج متاهة مغريّة . مضت أصابعي في شعرها وغبت بدوري في حلمي المربك الّذي مازال يتعقّبني :
( خ )
( بلغت بعد سفح الرّبوة وقد غمرني الوحل تماما . كان قد قطع مسافة بليغة وبلغ أطراف العمران بعد . انطلقت في عدو خلفه قبل أن يختفي . الشّمس كانت قد اختفت واللّيل في صدام مع ما تبقّى من ضوء متأرجح كي يفرض سطوته ويتمكّن من عتمته . خطواته بدت لي واثقة مديدة وأنا ألاحقه في شراسة حتّى أمسك به وأشدّ رأسه براحتيّ وأديره نحوي في غضب وأنظر في وجهه طويلا إلى أن أبلغ مقصدي منه . بلغنا أخيرا شارعا ضاءت مصابيحه بعد . ما عادت الظّلمة تزعجني ولا يمكنه الإختفاء مهما حصل منه ... ) .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ماهر حمصي

ماهر حمصي


ذكر
المواضيع والمشاركات : 1138
تاريخ التسجيل : 09/04/2008

حرير وجد Empty
مُساهمةموضوع: رد: حرير وجد   حرير وجد Uhh1018/12/2010, 9:32 pm



المبدع محمد حيزي


صورك رشيقة ....

بانتظار التتمة ...................

مع فائق تقديري واحترامي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://kharbashat.ahlamontada.com
 
حرير وجد
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
خربشات الثقافية :: خربشــــــــــــــــــــــــــات أدبية :: خربشات روائية ومسرحية-
انتقل الى: