اللغة ابداع للوجود
************
الكون قصيدة ، واللغة ملك الانسان ، وهي علامة على ما أجمع عليه اللغويون منذ أرسطو الى يوم الناس هذا . اذا كان الكون وهو سادر كما قد يبدو للآخرين في صمت غائب ، عكس حقيقته الضاجة بالنشيد والشعر ، يمارس طقس الشعر دونما توقف أو كلل ، فكيف يعجز الانسان سيد اللغة ، على التعبير عن نفسه ، وعن علاقاته الغنية والخصبة بهذه الحياة وبهذا الكون ؟ أليس هذا هو التحدي الأكبر ؟؟
كيف نخرج من شرنقة وجودنا الضحل مع هذا العجز الرهيب عن التعبير شعريا على كل تفاعلاتنا ، وهواجسنا وطموحاتنا ؟ . لأننا ببساطة لم نستطع الى الآن الاقرار ابداعيا ، أن الشعر يوجد في كل شيئ ، كما الفكر ، والفلسفة ، موجودان في دبيب النمل ، وفي زبد الموج ،وفي دستور الحاكم ، وفي قضبان الزنزانة ، وفي الأمل المتواري في أعماقنا رغم واقعنا المشؤوم .
أن نبدع اللغة ، يعني كمسلمة بسيطة ، أن نكون ، ليس اللغة تجسيدا لنا كما ذهب أدونيس ، انما اللغة هي كوننا ووجودنا ، كما رأى بحق هوسرل ، وبيتنا كما قرر كولردج ، والفرق واضح بين التجسد كحالة منحسرة الوضع والحدود ، وبين الكون كحالة منفتحة بلا حدود ، واذا كان أدونيس لم يوفق في التعبير عن حقيقة اللغة في تلك العبارة ، الا أنه وجبت علينا الاشارة الى كونه استدرك لاحقا أن اللغة أكبر من التجسد .
ولا مراء اذا اختلفنا مع أدونيس مرة أخرى في شأن تقييم اللغة ، فلم نجد من يعطي فكره وذهنه لمقاربة هذه الظاهرة بأسلوب تساؤلي ، يفضل منهج الرج والخلخلة والتفكيك مثله ، رغم ان الرجل فعل ذلك منذ ما يقرب 50 سنة وأكثر . فأدونيس اعتبر اللغة هي الحياة ، وهو يعني هنا اللغة العربية ، وليس اللغة كعلامة ؛ وبتخصيصها في هذا المنحى الضيق ، اجحاف كبير في حق الحياة ، لأن اللغة في هذه الحالة جزء بسيط من الحياة ، وليست كالحياة ، كما رأى أدونيس ، ان فهمه هنا لماهية اللغة يتناقض تماما مع دعوته ومفهومه للابداع .
المبدع في الشعر ، عليه أن يبدع لغته الخاصة به ، وبالتالي لا تبقى اللغة ذات وجود سابق ، وانما تعود ذات وجود لاحق ، مبدع ومبتكر . لأنها ببساطة لغة الشاعر الخاصة به ، الدالة عليه . كان بعض النقاد قديما يميزون الشعر المنتحل من الشعر الأصيل ، عبر فحص الأساليب اللغوية التي تميز قاموس هذا الشاعر عن غيره وطرق صياغته للغة والتي لا يأتيها غيره ، لأن هناك شعراء يمتلكون من الطاقة والحيوية ، وخصوصية الرؤيا ، مايسم شعرهم بلغتهم الخاصة ، ، وهذا دليل واضح على أن اللغة الشعرية غير سابقة على الشاعر ، بل هو من يبدعها .
ربما كان خطأ أدونيس في اسقاطه مفهوم اللغة الألسني على اللغة الشعرية ، والفرق واضح بالنسبة للشعراء وفقهاء اللغة ، بل ان أدونيس نفسه ، بؤكد ذلك في كتابات اخرى . وان كان يناقض نفسه في نفس الكتاب وفي نفس المقال ، حين يؤكد على قدرة الشاعر على " أن يرفض هذه اللغة اذا كانت لاتعجبه ، بل يستحيل عليه ان كان مخلصا مع نفسه الا ان يرفضها " . هذا الاقرار ، بل والحظ والحث على رفض اللغة السابقة ، هو اقرار بامكانية وضرورة خلق لغة جديدة ، وابداع أسلوب لغوي مبتكر ، ابداع لغة الشاعر الخاصة به ، أي شحنها بتجاربه الخاصة به وبرؤيته الذاتية للأشياء ، أي ايداعها أحاسيسه ومشاعره وحدوسه وفيوضاته ، أي اعتماده على قاموس لغوي ، وصياغة أسلوبية يتقن الدخول في سراديبها والابحار خلال أمواجها ، والتحليق في سمائها ، الشاعر كائن فيضي ، والا صار مجرد تلميذ يركب فرضا انشائيا ، بلغة يظن وهما أنها شعرية .
الشاعر العربي قادر على أن يؤتي فتوحات ابداعية ذات بعد كوني ، ولنا أمثلة على ذلك ، لكنها أمثلة قديمة ، والحديثة لاتكفي للأسف عدد أصابع اليد الواحدة . لأن العائق أنه لايجد تفاعلا يذكي جذوة ابداعيته . عليه أن يحترق وحيدا ، وأن يتفاعل مع أقنعته جميعها ، وينتقد نفسه ، ويبتكر مخاطبا افتراضيا ، ومستمعا افتراضيا . ان أراد مواصلة مشواره . والا انطفأت شمعته وتلقفه الظلام . كما تلقف أمته جمعاء . كم من الشعراء الابداعيين الذين حاولوا ان يخلصوا للبعد اللغوي الابداعي ،ذي الحمولة والمسحة الجمالية ، على مر أكثر من نصف قرن ، ثلاثة ،أربعة . هم بالتأكيد لن يتجاوزوا ولن يصلوا عشرة . والا كان تعدد النماذج التي حاولنا تقليدها وتأثرنا بها وتفاعلنا معها قد أخصب شعراء ذووا قيمة كونية .
ففي مجتمعات تقليدية منغلقة ، يرفض فيها أدعياء الشعر والثقافة كل محاولة تجديد ، ويمجون الابداع باعتباره اضافة ، ويلعنون الابتكار لأنه لم يأت من عندهم ، يخاف فيه المغامرون أن يعلنوا عن تجاربهم ، وأن يدافعوا عنها ، لأنهم يخافون أن يقفوا في قفص اتهام ، ربما لعدم امتلاكهم الرؤية الواضحة لفلسفة ابداعهم ولشاعريتهم ، أو ربما لافتقداهم الشحنة النفسية القادرة على الوقوف في وجه المدعين والمعوقين ، وأظننا مجتمعا عائقيا بامتياز . وهذا ما جعل الكثيرين ينتكصون الى جوقة الترديد الجماعي ، لأن الابداعية الحقيقية كانت دائما فردية او في أحسن الاحوال تقف على جماعة محددة . وبذلك يرتد مشروع المبدع الى مجرد بوق جماعي يغرق في لغة الوصف والشرخ والتفسير ، والنسخ والترديد والتكرار ، وهو الذي كان يحدس في نفسه الرغبة في التجديد والابداع .
وتلك القلة التي رامت واختارت لغة البحث والتفجير والحفر والتنقيب ، بقيت مترنحة في منطقة "بين بين " . ولم تواصل تعميق تجربتها ، وتأصيلها ، لأن الصدى كان غائبا ، والمدى أضيق من خرم ابرة . ولأن التفاعل كان ميتا ، ، ولأن الأبواب جميعها موصدة . الا باب الابداع ، لا تقفل أبدا لأنها نابعة من الداخل ، والداخل الأصيل لايهاب الخارج المزيف . فالانسان المنكفئ الى الوراء لاتستطيع ارغامه للتقدم معك نحو الأمام .
ليس لمن حدس في نفسه الرغبة والارادة في البوح خارج القطيع ان يبقى داخل سياجها . الا الثقافة فهي فعل ذاتي أشبه بتجربة الصوفي الزاهد في كل شيئ الا في فتوحاته الروحية ، وتجربة البوذي المتأمل وهو يؤهل جسده على امتلاك أقصى طاقاته ، ليس على المثقف أن ينتظر تطبيل الطبول ، وأن تقرع له الأجراس وتصفق له الأيدي ، فذاك ضرب من عرس مجوسي . الثقافة احتفال صامت ، وعمل شاق ومستمر ، ، لكنه ممتع ولذيذ .
فهل هذه دعوة للانعزال والتفنج ، أم هي حقيقة ما يفرضه واقع الفعل والعمل الثقافيين في الوطن العربي؟ بل ان المثقف غير المنخرط في أتون واقعه ، ليس مثقفا ، بل هو تمثال يعكس جمالية وقع الطبيعة عليه ، بشمسها وغيومها ، ورياحها وغبارها ، ليس الا .
ان قدر الابداع ان يتأخر ، هذا ما يؤكده تاريخ الفكر الانساني ، بل وأن يحارب بكل أشكال الحرب ، المباشرة وغير المباشرة ، وهذا الوعي هو الذي يمنح المبدع قناعة مواصلة الطريق في جحيم الحياة بثبات اختراقي ، ويمنحه دعة الاكتشاف المتأني والخصب ،، بعيدا عن مهاترات الدخلاء والحربائيين ، وأدوان الاعاقة السياسية والخدماتية .
كلما ارتطم الانسان / الشاعر بعنف الحياة ، كلما كان شعره أقوى ، وذا نزعة تفردية في اللغة وفي والرؤية والرؤيا ، كما هو حال كبار الشعراء ، والمبدعين ، في جميع أجناس الابداع ، ومنهم شعراء "الجاهلية " الذين لا زالت أشعارهم تصاحبنا الى الان . وكلما خفت درجة ارتطامه بالحياة ، جاء شعره على قدر درجة هذا الارتطام ، مثله مثل قوة الضوء المنعكس ، اذ تنعكس قوة توهجه طردا مع طبيعة الأداة التي نستعملها لتجسيد هذا الانعكاس . فكلما كانت الأداة شفافة ، كلما كان الانعكاس أقوى ، والعكس صحيح . ان الشاعر الحداثي اما أن ينخرط في العالم بروح انسانية ، أو ينطفئ في نرجسيته وحدود مدينته او وطنه . فاذا امتلك لغته الخاصة قد يطل على العالم من خلال مدينته ووطنه ، واذا عجز عن امتلاك لغته الخاصة ، فانه يفشل وان توسل الى مغازلة الكون والعالم .
ماذا بقي اذن ؟ بقي الاعتراف بكون اللغة هي الأداة الوحيدة التي نملك من خلالها القدرة على اقتحام الوجود ، وابداعه ، حقيقة الكون والانسان تكمن في قدرة الشاعر على على تذويب احتكاكه وتمثله ورؤاه في جسد اللغة الخالد ، لهذا فطن العباقرة لدور اللغة ووظيفتها الخطيرة في بلورة وتاسيس الوجود ، كل من منطلقه ، ابتداء من رجل الدين وانتهاء الى التاجر . فلم تخلف الشاعر عن امتشاق صهوة اللغة اللاختراقية في عصرنا هذا ؟ ان لغة قادرة على ملاطفة الذهن ، وملامسة الوجدان هي الكفيلة بابداع وجود آخر .