بلا تمويل
كان يسير تائها في ظلمات أفكاره شارداً مع غزالات مشاريعه
فهو كل يوم يفكر في مشروع جديد وحلم جديد بثراء مديد
ولا يأتي المساء حتى تتكسر امواج مشروعه على درجات أحد مكاتب التمويل
لا تمويل لأفكار نريد مشاريع حقيقية نريد مخططات , تصورات , أي شيء يثبت جدية مشروعك
ولكن من أين له, فهو لا يملك حتى أجرة البيت للشهر القادم . فأي مخططات وأي مشاريع كله يحتاج للنقود , والنقود غير موجود , وأنا أقف هنا على الحدود ,هنا أستيقظ من أحلامه
كاد أن يصدم مظلة البقالة لولا أن أنحنى برأسه للأمام قليلاً , ياساتر كنا رحنا فيها
تسمرت كلماته هنا وهو يتابع منديلاً طائراً أمامه , منديلاً بلون الزهر في أوج الربيع , منديل يحمل معه عطور باريس وقوافيها , منديلاً جعله يركض خلفه كطفل يلهو بالكرة , منديلاً حين أمسكه أحس بقشعريرة لم يحسها منذ أن ألتقى جارته حسنية في علية الدار , نظر إلى الأعلى محاولاً الوصول إلى مصدر سقوط المنديل
ماداً نظره إلى الأعلى حين تصلبت عروق رقبته من هول ما رأه
يا إلاه العرش ما اجملها:
تلك كانت كلماته الأخيرة حين نادته صاحبة المنديل : لو سمحت ممكن أن تمسك لي المنديل انا قادمة
بين هذه الكلمات ولحظة وصول سيدة المنديل مرت ببالهه ملايين الأفكار , وملايين الأخبار مشاريع كثيرة
أشتهاءات كثيرة , ورعشات كثيرة , خيول فحولته طاردة كل رغبات العالم
ومارست الحب مع كل القوافي
لم يدري كم الزمن الفاصل بين اللحظتين
لحظة ألتقاط المندي ولحظة وصول سيدة المنديل
قد تكون ثواني وقد تكون دقائق يمكن كانت ساعات أوأيام لا يدري الشيء الوحيد الثابت لديه أنها شكرته على حركة الشهامة التي قام بها حين ألتقط المنديل , هذا الشكر ترافق مع ابتسامة خلابة بانت من خلالها أسنان اللؤلؤ المتلألأ في فمها
لؤلؤ أشع منه نور لم يره في حياته ولا حتى حين أنفجرت محطة تحويل الكهرباء بجانب بيته
لا يدري ماذا حدث بعد ذلك , فقد كانت السماء تشع نوراً والشوارع خالية من المارة
حاول تقصي اتجاهه ولم يفلح فقد كانت كل الأتجاهات عنده متشابهة
فلم يجد بدا من أن يجعل البقالة نقطة أنطلاقه فهو يعرف طريق بيته من هناك
تزاحمت الصور لديه ولم يستطع تذكر لحظة الشكر العظيمة من سيدة المنديل وما رافقها من نور أشع على الدنيا بأكملها
حاول اختزال الصورة عند فمها , فهناك يكمن كل شيء حاول تذكر شفتيها ولونهما , هل هو أحمر أو عنابي هل هما مكتنزتين من الأسفل أم مدببتين من الأعلى , تمنى ان تعود تلك اللحظة ليحتفظ بتلك الصورة ويحاول تجميع الألوان
لحظة تردد صدى صوتها في أذنيه صحى ولكن لم يكن أمامه سوي عمود مظلة البقالة الذي صدم نصف رأسه الأعلى فوقع مصروعا على الأسفلت وأصطدم رأسه بحافة الرصيف فكانت هي القاضية
سال الدم في كل مكان نزولا من أمام البقالة وحتى مدخل بيت سيدة المنديل
تراكض الناس وتدافعوا ولازالت الصور تتدافع في مخيلته
مشاريع , مصاري , مناديل .
صور , صور, بلا تمويل