ثمة رموز أدبية أو تاريخية أو فنية أو رياضية أو نباتية وغيرها تغدو مع الأيام هوية وشخصية لمدن وبلاد ومجتمعات، فما أن نقول البرازيل،على سبيل المثال، حتى يخطر في بالنا البنُّ وبيليه، كما لا يمكن أن نتأمل روسيا دون أن نتذكر الثلج والكافيار، كذلك إن توقفنا عند اسبانيا، فبرشلونة وريال مدريد حاضران بقوة في أذهان المتحدثين، حتى وإن كانوا من غير الرياضيين، أما إن كانت الأماكن المقدسة محوراً للحديث فإن النجف والقدس ومكة هي الأكثر حضوراً في الذاكرة، بينما ستتداعى النكثة واللطافة و(الأربعاء) الظريف عندما يكون الحديث خاصاً بحمص والحماصنة.. وهكذا.. ودير الزور ليست خارج هذه التصانيف، فقد شكّلت هي الأخرى رموزها الخاصة بها، التي أصبحت هوية لها، فكان منها الجسر المعلق والشاعر الفراتي والعجاج و(الباميا) ونادي الفتوة. ورغم فقر وسلبية بعض هذه الرموز وضحالة مدلولاتها، قياساً إلى رموز أخرى لم يتم تفعيلها، رغم ثرائها التاريخي، مثل ماري وقرقيسيا والرحبة وغيرها، إلا أننا نجد أنفسنا عاجزين عن رفضها لأن الإرادة الجمعية هي التي قامت، منذ عشرات السنين، بتثبيتها كرموز للمدينة. إذاً فـ(الفتوة) رمز ديري، شعاره حصان جامح، شرس، يقف على قائمتيه الخلفيتين، وكأنه في مواجهة دائمة مع الخصوم، الذين، وللأسف، أصبحوا يبطحونه المرة تلو المرة، دون أن يفهم محبوه أسباب ذلك. كبوات هذا الحصان هي، ومنذ سنوات، مثار حيرة وتساؤل الديريين، فالبعض يتهم السائس (المدربين) بالتقصير وعدم الكفاءة، وآخرون يتهمون الفارس (اللاعبين) بالتهاون وعدم الجدية، فيما ينال الجهاز الحربي (الإدارة) الحصة الأكبر من تهمة الفشل لسوء تخطيطها وإهمالها وكثرة خلافاتها. ربما كان كل ذلك صحيحاً، لكن الذي لم يُقل بعدُ، أي لم يصبح ثقافة وحقيقة في أذهان الناس هو أن (الفتوة)، ومنذ تطبيق قانون الاحتراف، قد أصبح هامشياً، كغيره من الفرق الفقيرة، ولم يعد ذلك المنافس القوي الطامح للوصول إلى نهاية السباق قبل غيره من المتسابقين. ما فعله الاحتراف في الكرة السورية، وفي كل العالم، أنه قام بفرز الأندية إلى طابقين، أندية تملك المال الكافي للإنفاق على فرقها وشراء اللاعبين ودفع رواتبهم ومكافآتهم، وأندية أخرى غير قادرة، في أحيان كثيرة، على دفع أجور تنقل وإقامة لاعبيها، فكيف بالرواتب والمكافآت والعقود؟ من الطبيعي جداً أن لا تصمد مثل هذه الأندية طويلاً في الدوري، بل، وهذا هو الأخطر في الأمر، أنها بدأت تتحول شيئاً فشيئاً إلى مزارع خاصة لتفريخ المواهب لبيعها إلى الأندية الغنية، التي تحصد البطولات بفضل هؤلاء اللاعبين، وأندية الكرامة والجيش والاتحاد أمثلة على ذلك. لا يتوهم أحد بأن الفتوة أو الوثبة أو الحرية أو حطين أو النواعير أو جبلة أو أمية أو غيرها من الأندية الفقيرة سيكون أحدها بطلاً للدوري، أو حتى منافساً عليه، وإن حدث ذلك فهو حالة عرضية ستزول سريعاً في الموسم الذي يليه ومثال ذلك الطليعة الذي نجا بصعوبة من الهبوط هذا العام وهو الذي كان أحد المنافسين على اللقب في الموسم السابق. منذ سنوات، أي منذ بدء الاحتراف، ومع كل انطلاقة للدوري، يبدأ جمهور الفتوة المسكين بالرهان على البطولة وعلى إمكانيات لاعبيه، وما أن ينتصف الدوري حتى يتراجع الرهان إلى تمنٍ بالبقاء في المقدمة، أما في الأسابيع الأخيرة فينكمش الرهان ليتحول إلى تضرّع ومناشدات لتجنب الهبوط إلى الدرجة الثانية. هذا هو حال الفتوة منذ سنوات، فهو، وطوال هذا التاريخ يحتضر، مجاهداً للبقاء بين الأقوياء، سلاحُه وعُدّته في ذلك بعض الشعارات البالية مثل (الوفاء لقميص النادي) و (رفع اسم البلد) و(ها اخوتي النشامى) وغيرها مما كان يقال للاعبي الستينات والسبعينات. لقد تغيرت الأمور وباتت كرة القدم حرفة مثل غيرها من الحرف يعتاش منها اللاعبون،(ومعظمهم عاطل عن العمل)، فهل فكرنا في هذا بشكل سليم قبل أن نتهم اللاعب بالتخاذل وقلة الوفاء؟ قد يقول لي أحد مسؤولي الرياضة في هذه المدينة بأن ميزانية النادي لا تسمح له أن يدفع للاعبين كما يدفع الكرامة أو الاتحاد أو الجيش، والبلد فقير، ورجال أعماله، المؤمنون بمساعدة النادي، قليلون.. وغير ذلك من المبررات.. نعم.. هذا صحيح، ولكن هل فكرنا بالبدائل، وأقصد السعي لتوظيف اللاعبين العاطلين عن العمل (وهم كثيرون)، وربطهم بالمؤسسات الحكومية (وهي كثيرة)، قبل جلدهم بالشعارات ومطالبتهم بالوفاء؟ وللتذكير، فإن ربط اللاعبين بالمؤسسات والشركات الحكومية هو شكل احترافي كان، وما زال مطبقاً، في العديد من الدول الأوربية، كبديل عن الاحتراف الشائع، الذي حوّل اللاعبين إلى سلعة تحكمها قوانين السوق ومنها العرض والطلب، فهل فكرنا في هذه الخطوة، أي بربط الأندية بالمؤسسات الحكومية التي ستتحمل رواتب اللاعبين والمدربين والإداريين، أسوة بناديي الجيش والشرطة؟ الفتوة، وللأسف، يتهاوى كأحد رموز المحافظة، وهذا طبيعي، بل هذا سيكون حال كل رمز لا يستجيب للتطور ويأبى أن يدرك ما يجري في الحياة. الفتوة عاجز اليوم عن إكمال مهمته كهوية،لأنه ما زال يحاول فتح بوابات العصر (الاحتراف ومتطلباته) بمفاتيح اجتماعية وأخلاقية قديمة، صنّعها ذات يوم رجل ديري اسمه غازي عياش، وكانت آنذاك صالحة لأقفال عصره. باختصار.. يحتاج الفتوة اليوم إلى عقلية جديدة، فهل هذه متوفرة بشروطها ومتطلباتها؟ |