كان هنا، نعم هنا، هذا مكانه، لازلت أذكر هذا المكان،
صورته منقوشة في ذاكرتي، مرسومة أمامي
أشياؤه على الرغم من مرور زمن ليس بالقصير.
كنت أحب أن أرقبه من بعيد، يثيرني كلامه، تستهويني حركاته،
أبحث عنه لو غاب عني. مع خيوط الصباح بأخذ مكانه في و
سط السوق بين الخضروات والغلال، لا الحرس البلدي
ولا حتى البلدية كانت تعني له شيئا. حركة الأرجل
والزحام هو ما يعنيه. مكان يتصيد فيه النقود يبدأ بفتح مخلاته.
ينشر طيوره المصنوعة من ورق وخشب وحديد مربوطة على
هيئة صليب ومنها ما هو مرسوم بالفحم. بعد أن يخط
الأرض بالطول والعرض. خطوط ليس لها معنى إلا عنده.
لوحة بخط عريض كتبت مند وقت هكذا. تبدو مهلهلة
مكتوب عليها "مطار اطويرات". يقلب برميلا صدئ فارغا
ليصعده وبعصي يطرب بها لتحدث صوتا مزعجا. يدور مع
المارة بحرية مع الزمن. اعتاد الباعة عليه كما اعتاد هو كلماتهم النابية له
، ويتجاهلهم في كثير من الأحيان، كما أن
بعضهم يراه فاكهة المكان، نسجت عنه الحكايات والقصص،
لا أحد يعرف عنه شيئا وكأنه خرج من رحم الزمن لا
أصل ولا فصل له. ينادونه(بالكابتن) أو هو من اختار لنفسه هذا الاسم.
تجاوز الثلاثين من العمر هكذا يبدو. يعتمر طاقية حمراء
اللون على الرغم من أنها كانت غير ما يبدو بيضاء ولكن
الأيام كان لها الأثر في تغير لونها، وحتى شكلها، يرتدي
سروالاً أزرق داكنا مربوطا بحبل يشده أحياناً مخافة أن
ينـزل. حافي القدمين في كثير من الأحيان على الرغم من
آهل البر والإحسان يرمون له بحداء أو شبشب إلا أنه
سرعان ما يرميه ليعود حافي من جديد. هكذا عرفناه، وألفناه،
مبتسما أغلب الأحيان مسحة من حزن تكسو
ملامح وجهه، ينهمر باكياً إذا ما أحد نهره أو ركل أحد طيوره،
يقلب الدنيا وتخرج من بين فكيه سلسلة من السبابات
غريبة {يلعن أمك والي جاب أمك وأبوك اللى ... أمك}،
ومنهم من كان يتلذذ بهذه الشتائم ومع الأيام مسح رواد
السوق ما تبقي من عقله.
وما هي إلا لحظات حتى يمسح دموعه بطرف كمه المتهدل،
ويعود بنظراته يلاحق المارة، وعيناه تفضحان لهفته
إلى "المعلوم"، ويطلب أن تحجز مكانا على أي طائر والمبلغ
المدفوع هو ما يحدد المكان والزمان ونوع الطائر وموعد
الإقلاع والهبوط، ولا يسمح لك بالتدخل فهو "الكابتن".
أهل الإحسان يرمون له بالصدقات ويكسوه الفرح مع كل قرش،
وبإصرار أن تأخذ التذكرة قطعة من ورق صابون أو
ورق بسكوت، أو قطعة من كرتون، وأي سؤال دون دفع فهو مضيعة للوقت،
ولاجواب عنده له، كأن تقول مثلا "متى
الإقلاع يا كابتن"؟ من دون دفع القيمة، فرده المباشر "مش شغلك".
تمضي الساعات وهو على هذه الحال، وبين لحظة وأخرى يطلق
صرخة تطير معها لحظات السكون أحيانا، تفزع من
يغلبه النعاس من العجائز داخل السوق.
حين يشعر بالتعب مع آخر النهار يترجل من على البرميل ليجمع
أشياءه، ويشد محكما قبضته على مخلاته، يتمدد
بإحدى الزوايا مصدرا شخيرا حتى الغروب، وبعدها يلملم أشياءه
ويرمي بمخلاته على كتفه ويأخذ طريقه محاذيا
سور السوق خارجا وهو يضرب بعصاه الجدار وهو يتمتم بأشياء
لا يفهمها غيره، مع غياب الجميع يصبح ما تبقى
مرتعا للذباب والكلاب.
مرت الأيام على هذه الأحوال إلى أن جاء اليوم الذي أعدت البلدية
فيه برنامجا لتنظيم السوق وعمل مربعات
لتسهيل عملية الجباية من الباعة، ومع هذه المربعات لم يعد للكابتن
مكان، فكل مربع بثمن. اجتاز كل الخطوط
المعدة، وبدأ هو يخطط مربعاته ومستطيلاته، ويقول له عقله "
مافيش خط أحسن من خط".
تقدم منه أحد أفراد الحرس البلدي يتبعه صياحه من بعيد، ارتجف
واتسعت عيناه حتى ملأت نصف وجهه، فإذا به
يقذفه خارج السوق بدفعة قوية، بعثرت أشياءه. ابتلع ريقه بحرقة،
وقد انفجرت عيناه بالدموع. نهض، ثم جثا على
ركبتيه، ورفع يديه عاليا وقال بصوت تحجَّر كل من
كان يسمعه. "الله يبليك زي ما بلاني".
جمع ما استطاع من بقاياه واختفى وسط الزحام.