الساعة : 11.13 ظهراً ..
جيهان و عماد في السيارة في طريقهم إلى تركيا , يدندنون لحناً مرحاً مع المذياع و رائحة العطر تملأ المكان .. الهواء الآتي من طرف عماد يهرّب عطره إليها كما يهرب هواء نافذتها عطرها إليه ..
زوجان سعيدان هما , في رحلتهما الأولى معاً ... و اللحن في السيارة ما يزال مرحاً .. ممتعاً .. صاخباً ..
الساعة : 11,15 ظهراً ..
جيهان و عماد في السيارة .. الـ .. المعجونة بالتراب في منتصف طريقهم إلى تركيا , أنات متألمة مع رائحة الدماء تملأ المكان .. في الأعلى تهدر السيارات الأخرى المسرعة دوماً .. لا أحد يلتفت إلى السيارة المحطمة التائهة في قعر الوادي .. الكل مشغول في هذه الأيام !
هي دقيقتان فقط .. جعلت من عماد ( المرحوم عماد ) و من جيهان ( الأرملة جيهان ) .. هي دقيقتان .. أسكتت المذياع و عماد إلى الأبد ..
شمس الظهيرة الحارة مع رائحة الدخان و الأصوات الصاخبة المرتبكة شكلت مزيجاً لا ينسى في ذاكرة جيهان , لقد عاهدت نفسها على أن تنسى هذه الصورة إلى الأبد .. و قد كان ..
هي الآن - و بعد مرور ستة أشهر - تزاول عملها كموظفة إدارية .. لم يتغير شيء سوى بعض الخدوش التي أضيفت إلى وجهها , و خدوشاً أخرى كثيرة مزقت توازنها الداخلي دون أن تعلم ..
كان اليوم متعباً حقاً , الكثير و الكثير من المراجعين .. " يا إلهي من أين يأتي كل هؤلاء الناس ؟؟! " .. استلمت معاملة ما و تهيأت لوضع توقيعها الذهبي عليها عندما ...
" يا إلهي .. هذا العطر ! "
رفعت نظرها إلى أعلى لترى المصدر .. كان شاباً عادياً لا شيء مميز حوله ..
إنه ذات العطر التي كان يضعه عماد في اليوم المشؤوم .. دمعة خجولة حاولت التسلل إلى عينيها فزجرتها ..
في الباص اشتمت رائحة العطر ذاته .. في مدخل المبنى البارد .. عندما فتحت باب بيتها ..
و عندما حاولت النوم , لم تستطع فرائحة العطر تعبق في أنفها و الذكريات التي تجرها تدمي عقلها .. نهضت من السرير و انتزعت زجاجة عطرها و بدأت رشه بعنف في كل الغرفة كمن يرش مبيد حشري ما ..
" رائحة العطر هذه يجب أن تفنى .. يجب .. "
في اليوم التالي ذهبت إلى العمل بعينين مرهقتين لدرجة أن زميلتها مها سألتها عما إذا كانت بخير ..
" بخير .. بخير .. مجرد أرق فقط .. أ .. مها .. هل تضعين عطر فهرنهايت ؟ " ..
رسمت حواجب مها إشارات تعجب أجابتها عن سؤالها ..
رائحة فهرنهايت الغامضة الباردة تطاردها منذ حوالي أسبوعين الآن .. الصابون و الطعام و الهواء كلهم اكتسبوا هذه الرائحة ..
جربت أن تسد أنفها بملقط .. أن تنتزع أنفها ذاته .. الرائحة لا تزال تعبق بالمكان ..
بعد شهر و قد أوشكت على الجنون , تطوعت إحدى صديقاتها بعرضها على طبيب نفسي قسراً ..
" يا سلام !! و هل تحسبيني مجنونة ؟؟؟ "
" أنت عاقلة لكن أنفك مجنون .. هذه الحالة يجب أن تنتهي قبل أن يذوب عقلك "
خرجت من عيادة الطبيب النفسي محملة بقائمة من المهدئات و المنومات و بالرائحة ..
في الساعات القليلة التي كانت تصحو فيها كانت تجد أمها إلى جانبها فتتمتم : " هل من المعقل أن روحه هنا تطاردني ؟ " فتجيبها أمها دامعة : " لكن الأرواح لا تضع العطر يا ابنتي " ..
" أحياناً أتمنى أن أقتل نفسي .. أن أموت و أرتاح ! "
في إحدى الصباحات , حيث شمس الظهيرة تبسط أشعتها الحارة في غرفتها .. نهضت جيهان , جلبت أصيص الورد من الشرفة و نثرت التراب على السرير ..
فتحت الخزانة و أخرجت سترته السوداء المحترقة .. رشت عليها ذاك العطر , العطر الذي كاد أن يقتلها ..
أطبقت جيهان أصابعها النحيلة البيضاء على السترة السوداء .. السترة السوداء التي يهرب منها ذاك العطر .. قررت أن يُحبس في داخلها , , قربتها من وجهها و عانقتها , هذا العطر لها و لها وحدها ...
لقد تصالحت مع ذاكرتها .. مع نفسها .. و أصبح العطر مجرد ذكرى هو الآخر ..
الصمت الصارخ