تجرع ما تبقى من قهوته الصباحية ، أعتدل في جلسته ، تأهبت أنامله للحديث
أصغى باشتياق وترقب فطالما فاجاءته وأبهرته
اصطفت الحروف كل في مواقعها المعهودة على لوحة مفاتيحه وبسهولة أخذت أنامله بالطرق عليها
وهو لا يدري أي حرف تختار وأي شعور تتقمص..
في صباح خريفي غير كل الصباحات ، رياح جافة تنفخ وتصفر كأنها نوته مجنونة ، تشهق بخشونة الرجال وتزفر كحشرشة الموت
أما الأجواء فكانت تشوبها غبرة محمرة ببؤس الحياة تحلق فيها وتحوم الأكياس البلاستيكية والقصاصات الورقية الصفراء كالنوارس
جلس أحمد في مكتبه أمام حاسبه وأخذ يكتب مايشغله
الجزء الأول
مكالمة هاتفية فقط نسفت كيانه ، زعزعت ثقته بنفسه ، تجاوزت به مراحل زمنية وجعلته كهلا فجأة
لم يكن يعرف كم هو ضعيف..كم هو عتيق
وكأن عظامه صُنعت من الخزف قد تهشمت و جلده الأسمر الخشن في لحظة تجعد وصار كالفخار المحترق
نفسه!
نفسه العالية صارت خواء وانزوت في زاوية مجهولة من زوايا جسده البالي.
تذكر تلك المكالمة الهاتفية وشغلت تفكيره ولما لا ؟ وحروفها مازالت تحرقه وكلماتها تبعثره يحاول جاهدا لملمتها واستيعابها دون جدوى..
وبينما هو يحاول مسك تلابيب نفسه أخذت أنامله تنقر وتنقر على المفاتيح بدون أوامر منه ولا حتى ترضى إن تنتظره
وفي النهاية كتبت التالي :..
يتبع ..
الجزء الثاني
إلى نفسي الحبيبة..
ما أكتبه الآن هو نفسه ما كنت سأكتبه منذ أول صباح هو نفسه ما سأكتبه صباح غد هو نفسه ما سأكتبه بعد عقد من الزمان
فأنت الأمس هو أنت اليوم هو أنت غدا ولا قدرة لكَ على التغيير..
عزيزي ..
أنت متطرف..نعم متطرف في كل شيء
تعطي بلا حساب ، تُصدّق بدون حذر ، تُصادِق إلى حد الإيثار ، تحب بلا عقل
رغم ما خضته في الحياة من معارك ، رغم كل جراحك النيئة ، رغم ندوبك اليابسة
فأنت لم تتعلم بعد ومازلت طفل تتعلم نطق أبجديات هذا العالم السفلي
لا يا عزيزي ..
هذا العالم السفلي كل شيء فيه بقدر
عليك أن تتكلم بقدر ، تعطي بقدر ، تحب بعقل وتكون حذر
عليك أن لا تنساني لا تنسى نفسك فأنا الأجدر بالاهتمام أنا الأجدر بالحب
نسيتني فنسيتك، لم تستوعبني فأمطرتكَ بكِم هائل من علامات الاستفهام لا قبل لك بها..
ارتعشت أنامل أحمد وتوقفت عن النقر و الكتابة ، أسند ظهره على مقعده وقال:
كفى..
يكفي هذا الصباح أرجوك
صباح الغد ستكملين البوح بنفس جديدة
يتبع..
الجزء الثالث