في المستشفى

موضوع: في المستشفى 24/6/2011, 10:05 pm

في المستشفى

***********

دخلنا الى المستشفى ،أنا وزوجتي ذات الخطو الثقيل ،فحملها حسب حساباتها جاوز التسعة أشهر ،والدكتورة التي كشفت جنينها بالفحص بالأشعة ،وبالذبذبات الصوتية ،حذرتها من أن الجنين قد يصاب بجفاف ،قد يؤثر على عينيه وهو لا يزال في بطنها .وجهها المتعب وعيناها الذابلتان ،كلما نظرت اليها ساورني خوف على الجنين .فالقادم المستقبلي، قد يأتي بعاهة لاقبل لي بالترحيب بها طوعا ،وان توسلت بكل سياط الصبر .ولن يكون الا الكره هو السبيل للقبول بعاهته لا قدر الله ....اللهم لاأسألك رد القضاء ولكن اسألك اللطف فيه ..

عند ولوجنا باب المستشفى بهرتني تلك الملصقات الحاضة على مقاومة الرشوة ،ونبذها .كل جدرانه ممهورة باعلانات تجرم الرشوة ،وتصفها بكونها سرطان ينهش جسد الأمة ،وسوس ينخر عظامها ،ويفتت المجتمع ،ويقف عائقا أمام تطور الوطن.شعارات جميلة ،لكنها كثيرة ،والكثرة تدل على المبالغة ،والاستهتار .فما نفع كثرة الشعارات اذا لم يطبق شعار واحد على ارض الواقع ؟.وقد كنت سمعت اشاعة قبل أن آتي أنا وزوجتي الى المستشفى ،ان مسؤولا كبيرا زار المستشفى قبل أيام ،متخفيا في كونه مواطن عادي ،جاء يبحث عن مريض .لكن الحارس لم يأذن له بزيارة المريض ،فما كان من المسؤول المتخفي الا ان أخرج ورقة مالية مغرية وقدمها للحارس الذي أخذها بفرح كبير ،وأدخله الى حيث يريد .لكن المسؤول بعد أن مر بكل جنبات المستشفى وأقسامه ،وصل في النهاية الى مكتب المدير ،وأخبره بما كان من الحارس ،فتم طرده في الحال ،ولم يأخذوا منه الورقة المالية التي رشاه بها المسؤول.

كان على المقاعد الجانبية للبهو الكثير من الناس ،يقتعدونها انتظارا لذويهم .أو انتظارا لدورهم .ولم أجد أحدا من ادارة المستشفى كي أسأله عن مدخل قسم الولادة ،الا امرأة أشارت على زوجتي ان تفتح احدى الأبواب لتدخل الى المجهول .حاولت مرافقتها ،لكنني اصطدمت بطابور طويل يزيد على العشرين امراة تنتظرن دورهن للفحص أو الولادة ؛منهن من اختارت التمشي والسير ، ومنهن من توسدن على أكتاف بعضهن يتبادلن الأنين وألم المخاض ،تماما كجنود منهزمين عائدين من معركة لم ينج منهم أحد بعاهة .ومنهن من اقتعدن الأرض .هالني الأمر ،فلم أدر كيف أتصرف ،ولم أجد نفسي الا وأنا أنسحب من وسط هذا الأنين الضاج بصوت نسائي موجع ،تركت زوجتي معهن تشاركهن حفل الآلام ذاك !!!!

خرجت وأنا مذهول ،لا أصدق نفسي ما رأت عيني،فهذه هي المرة الأولى التي أدلف فيها قسم الولادة ،وعلى العموم أنا لا أحب المستشفيات .لم أتعلم دخولها الا بعدما تزوجت ،وعندما أدخلها يكون الأمر بسبب زوجتي او أطفالي .وكنت دائما أطلب من الله ان يجنبني دخولها ،فأنا من الناس القلائل الذين لم يطلبوا من الله شيئا الا الصحة والعافية طبعا ،لكني لم أطلب منه مالا أو جاها ،ولا أطلب من الناس شيئا أيضا ،الا الاحترام والمعاملة الحسنة .ربما كانت هي الأشياء التي لم نتعلمها في أوطاننا العربية .فمن هول ما أسمع وما أقرأه ،وأتابعه على شاشات التلفزة ،من جرائم تقع في المستشفيات ،اختلطت علي الأمور ،فلا أدري هل هم يتحدثون عن مراكز للاستشفاء ،أم عن مراكز للقتل والبتر والتشويه .

بدأ القلق يساورني ،والحيرة تتملكني ،ماذا اصنع ،وكل ما أراه ينذر بشؤم قريب .ملصقات الجدران وديكور الصالة شيئ، وواقع النساء الحوامل شيئ آخر ،كأنها مسرحية من مسرحيات "بريخت" ،حيث التناقض الساخر في اجلى صور العبث .أناقة البهو ،وجمالية المكان ،تدل على ان المستشفى في كامل جهوزيته ،لكن واقع الحوامل الذي رأيته بأم عيني ،يقول عكس ذلك . فمن أصدق صور الملصقات وشاشة البلازما التي تعرض قناة مختصة بعالم الحيوانات ،أم ركام السيدات الحوامل المرميات في ممر لا يزيد على خمسة عشرة مترا، في اهمال واضح وتهميش متعمد وتكديس للأوجاع ،كأنها بروفة فيلم البؤساء بنسخته المعدلة والمنقحة .فجأة ظهر حارس أمن جاء من الباب المؤدي الى باقي أقسام المستشفى .يصطنع على وجهه صرامة وقتامة كأنه حارس سجن وليس مستشفى ،لاحظت أنه عندما يسأله أحد ما ،يستمع اليه بعنجهية وفوقية ،كأن وقته وانشغالاته تفوق وقت المدير وانشغالاته ،وهي أهم بكثير من الانصات للناس وتوجيههم ،ويعمل على صرفهم عنه بأسرع ما يمكن .والناس في أقصى درجات الاستسلام والاستكانة .وكأن الذل قد تلبس صورا انسانية ،وها هو يستجدي استشفاءه كيفما اتفق،والذل لا دواء له .....يتبع