بؤس طفولة وشقاء شباب واغتراب رجولة
أه كيف مر العمر سريعاً ..!!!!
كم أشعر بشهوة حارقة للقهوة !
هذا ما جال في خاطره ، وهو على فراشه . أدار رأسه نحوها ، كانت حركته بالغة البطئ والصعوبة من شدة الوهن الذي يدهم جسده . كانت ترنو إليه بحنو صامتة بعد أن تدحرجت على وجهها الندي الذابل حبات دمع شفيفة ، وهي تفكر كيف لون الشحوب وجهه بريشته الخريفية .
********
كم أن راغب بفنجان من القهوة !
كان يتخيل رائحته طازجة تعبق في الفضاء ، ثم تسري في عروقه بإغراء شديد . هم أن يسألها فنجاناً من القهوة .
آ آ آ ..!!!! حاول أن يهمس برغبته المحمومة كجسده الذي كان يتصبب عرقاً بارداً ، لكن الكلمات بقيت حبيسة صدره ، ولم تخرج .
هل شل لساني ؟
وما عدت أستطيع النطق ؟!
إلى هذه الدرجة استفحل المرض ، وراح يلتهم بدني ؟!
شعرت بأنه يريد شيئاً ما فصرخت : ( ماء .... ماء ) ! وركضت ،
أحضرت كوباً من الماء ، وقربته من فمه .
********
آه إنها حزينة جداً ، فتبقى وحيدة . مسكينة . .. منذ زمن بعيد لم ألاطفها ، لم أقل لها كلمة حب واحدة ولو مجاملة
كم كنت فظاً بحجم قسوة الحياة والغربة ، لكنها صبرت ، واستوعبتني . آه لو أستطيع الآن ، لنهضت من سريري وشربت معها فنجاناً من القهوة ، على شرفة بيتنا ، ولاستمتعنا بالسماء وزرقتها ، وبأسراب الحمام تجوب فضائها الواسع .. سأعتذر لها ، سأخبرها أن حبي بحجم السماء ، وأن السنين لم تزدها إلا جمالاً.
كان هذا سيسعدها كثيراً .
آه كيف مر العمر سريعاً بين بؤس طفولة وشقاء شباب واغتراب رجولة ؟!
وفكر منذ زمن بعيد لم ينظر إلى السماء ، حتى أنه لم يعد يتذكر متى آخر مرة عد فيها النجوم ، أو نظر إلى زرقة السماء ، وتمعن في أشكال نجومها سابحة بين جوانحها .
"ربما كنت أنظر إليها ، لكن ذهني لم يكن صافياً أبداً ، حتى أنتبه إلى عمق جمالها "
كيف لم أع انقضاء الزمن واقتراب ملاك الموت ؟!
يا لسذاجتي ، كنت أعتقد أنه بعيد عني ، وأن لدي متسعاً من الوقت كي أحب وأعتذر ،وأستمتع بما حولي .
آه لو أخذت إجازة ، وعدت من مرضي قبل مرضي ، لكنت جلست مع زوجتي ، واستمتعت معها بشرب القهوة . لم أعد أدري هل أنا أحلم أم هي تهيؤات الواقع ؟!
وشعرت أني اسبح في الفضاء كما لو أني أطير مخدراً .
تساءلت :
لم تعد تتحرك أغصان الشجرة قبالتي مه نسائم المساء ؟!
ولأكثر ما أدهشني أن الحمام بقي في إطار الصورة التي أنظر إليها من النافذة ، هل توقف عن الطيران والحركة هو الآخر ؟! وقررت أن أغلق جفني . كنت أشعر بجفاف كبير في عيني من شدة التحديق إلى السماء الزرقاء والغيوم وسرب الحمام .
" آه كم رائع هذا المنظر ! " ... وحمد ربه أن سريره النافذة ، لكنه لم يستطع .
********
مع ازدياد ضجيج الأصوات في الغرفة ، راح وجيب قلبه يخافت رويداً رويداً ، حتى بات مخدراً بين الواقع والحلم . شعر أنه خفيف كغيمه تسبح في الفضاء .
ما عادت تتحرك أغصان الشجرة قبالته . تساءل لم . ودهش أكثر كيف سرب الحمام تجمد في إطار الصورة التي يرصدها من خلال النافذة . وكأن الزمن أخذ إجازة هو الآخر . ثم قرر أن يغلق جفنيه بعد أن شعر بجفاف في عينيه من طول التحديق إلى السماء الزرقاء ، والغيوم ، وسرب الحمام ... لكنه لم يستطع إغلاقهما : " حتى أنتما ؟!" فكر .
( أمي : حضر الطبيب )!
" أهذا صوت ولدي ؟!
آ÷ كم يحرق الضوء عيني ... آه لو يأتي ويساعدني على إطباقهما . أريد أن أنام ، أريد
أ .....ن ... أ ..... ن ..... ا ..... م .
بعد برهة أطبق الطبيب عينيه قائلاً : " البقية في حياتكم "
وغاب هو في ظلام بلون القهوة ، ورائحتها ما تزال ......
نقلاً عن مجلة المهندس العربي
م . أدهم سراي الدين