زوليخا موساوي الأخضري
المواضيع والمشاركات : 6 الجنسية : مغربية تاريخ التسجيل : 31/07/2011
| موضوع: القط و المرآة 1/12/2011, 8:19 pm | |
|
القط و المرآة
قصة زوليخا موساوي الأخضري
جن الليل. ليل طويل بهيم. صوت العاصفة يزمجر غضبا في الخارج. هل أغلقت كل النوافذ؟ خوفي من الأشرار يغطي على صوت العاصفة. المطر و الريح الهوجاء تقتلع كل شيء و تضرب النوافذ بماء مشبع بالغبار. البرق يضيء عتمة البيت على دفعات مثل يد طفل مشاغب تلهو بزر الكهرباء. ماذا لو صاعقة ضربت البيت الآن؟ تضحك من نفسها و هي تتذكر أنها أطفأت النور قبل قد تلتجئ إلى دفء الفراش. لكنها مع ذلك خائفة. ألا يقولون أن البرق لا يحب الضوء؟ غريب كيف لهذا المشاغب أن يعشق الظلام. يبدو أن أداد و زيوس متفقان على ذلك. لا يتجلّيان إلا في العتمة. ربما كي يستأثرا باهتمام البشر. تراقب مندهشة شلالات الضوء تظهر و تختفي بسرعة خارقة لكن خائفة أيضا. أو ربما ليست خائفة بل هي فقط تلك الوحشة التي تنتاب الإنسان حين يقضي مدة وحيدا تماما. منذ أسبوع لم تر أحدا و لم تكلم أحدا. حتى الهاتف أصيب بالخرس. توزع وقتها بين الحاسوب و الكتب. تتقلب في فراش محموم. على الظهر. على البطن. وضعية الجنين. وضعية المحارب، تجلس، تقوم، تغادر الفراش، تجوب أرجاء البيت، تدخل المطبخ، تجول ببصرها، كل شيء في مكانه، حتى الصمت. قط الجيران ذلك المرقط كنمر صغير يدخل عادة من الشرفة الملتصقة بالمنزل المجاور. تجده يموء وراء الباب و ينظر إليها بعنينين متوسلتين. حتى هو غائب هذا المساء. ربما ينتقم منها لأنه يشعر أنها لا تحبه. ليس لأنها لا تستلطفه هو بالضبط بل فقط هي لا تحب الحيوانات عموما. أحيانا يختبئ في الحمام في الدرج المخصص للفوط الذي تنساه دوما مفتوحا فيتخذه القط مأوى. ستطرده بعنف. تكره أن تجد شعره على كل أشيائها و رائحته تلك الكريهة يا إلهي كيف أتخلص منها؟ تمر أمام المرآة. مرآة طويلة مثبته في الجدار جنب الدولاب. تتحاشى النظر إليها. تتذكر كل القصص التي كانت جدتها ترويها لها و هي توصيها ألا تنظر إلى المرآة بالليل. كيف أومن بهذه الخرافات؟ أشباح تخرج من المرآة بالليل؟ يا لي من ساذجة! تغادر الحمام و هي تتحاشى أن تنظر نحو المرآة. تغلق باب الحمام بإحكام. تفتح عينيها و تغمضهما. هل نمت كثيرا؟ غفوت؟ أم أنا مستيقظة؟ تشعر بخذر في أطرافها المتيبسة. الدنيا حر. تنزع عنها الغطاء. تمدد رجليها و تنبطح على بطنها. تريحها هذه الوضعية كثيرا. تمشي في الشارع. شمس حنون تطل عليها من بين أغصان الأشجار. زقزقة العصافير جذلانة بنور الصباح تملأ أذنيها طربا. تدور بعينين مفتوحتين عن آخرهما في كل الأرجاء. ماذا يحصل؟ لماذا في بيتي عاصفة؟ الجو في المدينة راق و الناس يمشون كما يفعلون كل يوم. عليّ أن أسأل ماذا يقع؟ هل كانت هنا عاصفة هدأت للتو؟ لا أرى أثرا لها. تتابع السير. لا تسأل أحدا لأن لا أحدا يلتفت إليها. كأنها تعبر مجالهم البصري دون أن تدخل شبكة أعينهم. هل يرونها؟ هل تسألهم؟ ماذا ستقول لهم؟ لماذا العاصفة في بيتي فقط؟ سيتهمونها حتما بالجنون. فجأة تلمح رجلا في الطرف الآخر من الشارع. تهرول نحوه. يبدو مألوفا. تعرفه رغم أنها لا تتذكر اسمه بالضبط. تتعقبه، توقفه بلمسة خفيفة من يدها على ذراعه. يلتفت. إنه هو. هو فاضل. صديقها فاضل. لم يجب على رسائلها منذ مدة. بل و حذف اسمها من قائمة أصدقائه دون أن يكلف نفسه عناء الشرح. لماذا؟ لماذا يا فاضل؟ تسأله. لا يجيب. يقطع الشارع و يبتعد. و هو يلتفت، يقع بصرها على اللوحة التي يحملها بيديه عاليا فوق رأسه كتلك اللوحات التي يرفعها المتظاهرون في المسيرات الشعبية. أنا ذاهب إلى البحر. كتب على اللوحة. يزداد استغرابها حين تلمح أشخاصا كثيرين يحملون نفس اللوحة مكتوب عليها نفس العبارة و يمشون في نفس الإتجاه الذي ذهب فيه صديقها فاضل. تتمطى. تعيد الغطاء فوق جسدها. تشعر بقشعريرة تسري في كيانها. ماذا يقع لي؟ يا إلهي! أنا هنا و هناك في نفس الوقت. هل أنا ميتة و روحي هي التي تتسكع تبحث عن شيء لا يزال مبهما لديّ؟ لماذا لا أغادر هذا الحلم الذي يتكرر؟ حلم؟ تشعر بشيء ثقيل فوق جسدها المسجى فوق السرير. هو حتما القط، دخل يبحث عن بعض الدفء. تستيقظ في ليال كثيرة على رائحته النفاذة تقتحم عليها سريرها. تنهض و بغضب شديد تمسكه من رقبته، ترميه خارجا، تغلق الباب بإحكام ثم تعود إلى النوم. ماذا لو مات من البرد؟ القطط لا تموت بهذه السهولة. ألا تعرفين أن لها سبعة أرواح. يعني تموت و تحيا ، تموت و تحيا ست مرات، و في السابعة فقط تطلع روحها إلى السماء. سأتركه في الشرفة إذن مادامت أمامه حياة طويلة. أما أنا فلا بدّ لي من الساعات الضرورية للنوم لأني لن أموت إلا مرة واحدة. الشيء فوق جسدها يزداد ثقلا. يضغط عليها بشكل خطير يكاد يخنق أنفاسها. عرق غزير يتصبب من جسدها و يبلل الملاءات. عليها أن تقوم و تنهي هذا الكابوس لكنها لا تقدر. تحاول دون جدوى. تريد أن تصرخ و لو أنها تعرف أن لا أحد في البيت كي يهبّ لنجدتها. لسانها معقود في سقف حلقها. ريقها ناشف و الصرخة منحبسة في عمق حنجرتها. لم يكن عليها أن تقرأ لموباسان* ذاك . يحكي عن الأشباح و الظلال في المرايا خاصة في قصته الهورلا. منذ أن قرأتها و هي تتخيل أشياء. موبسان انتهى في مستشفى المجانين و هي لا تريد أن تلقى نفس المصير. لكن ذلك يتوقف على تحررها من هذا الثقل الذي يضغط على أنفاسها. سأفكر في شيء آخر كي أنسى وجود هذا الثقل فوق أنفاسي. تعودت على هذه اللعبة كلما وجدت نفسها في مأزق ما أو بحاجة ماسة لشيء ما و لا يمكنها الحصول عليه. فتراوغ بالنظر و التفكير في شيء آخر مختلف و بعيد تماما عن الأول، و بذلك تجد عزاءها. و تنسى لبعض الوقت ما يؤرقها. لا تدري كم من الوقت غفت تحت الجسم الثقيل، لكنها حين فتحت عينيها مرة أخرى، أحست بنفسها خفيفة مثل ريشة، مثل نسمة ريح. كأنها تسبح في فضاء خال من الجاذبية. هل هو الموت مرة أخرى ما يعطيها هذه المرونة في الحركة بكل هذه الخفة. تطير من غرفة إلى أخرى، ترقص على أنغام ساحرة كأنها آتية من الجنة، تذهب في كل اتجاه، تخترق الجدران و الأبواب، تغني ألحانا تخترعها للتو... من أين تأتيها هذه الغبطة؟ متى راودها هذا الشعور بالضبط؟ قبل قليل،كانت تود أن تنام ذلك النوم العميق الهادئ الذي لا يدخل غماره أي شيء. لا ظلال، لا خيالات، لا أشباح، لا قطط و لا مرايا. كيف نسيت الأمر كليا؟ لم تنس فقط بل تشعر بسعادة أنها خفيفة كالريشة. رغبة عارمة في الخروج إلى ضوء الشمس تنتابها. سأفعل حتما. لكن لن أخرج هكذا. تتحسس أطراف جسد بارد و نصف عار. تقرر أن تعدّل من هندامها. تتجه إلى الحمام، تفتح الباب على مصراعيه، من دون وجل تنظر في المرآة. تصرخ! تضع كفها على فمها كما تفعل دوما حين تتحاشى إزعاج الآخرين بضحكة مجلجلة أو بصرخة إثر دهشة أو إعجاب. في المرآة لا ترى صورتها. المرآة صافية تماما... بيضاء... ناصعة البياض ككفن...ينعكس عليها بريق الزليج الأبيض في الحائط قبالتها. يلمع بشكل غريب. تقرب وجهها أكثر من صفحة المرآة. القط هناك في العمق ينظر إليها بعينين تملؤهما ابتسامة ماكرة.
القنيطرة في غشت 2011 زوليخا موساوي الأخضري
* موبسان Maupassant كاتب فرنسي عاش في القرن التاسع عشر اشتهر ببراعته في القصة القصيرة الواقعية منها و الغرائبية و الهورلا Le Horlaقصة قصيرة تدخل ضمن هذا الصنف.
| |
|