الأرجوحة
" أريد أن أتأرجح !"
هكذا لمحت عيناها الأرجوحة رغم ظلمة الحديقة .. وهكذا قالت في صرخة طفل وجد لعبة جديدة
-- " أريد أن أتأرجح !"
أخذت تثب ممسكة يديه ثم جذبته بكلتا يديها وراءها.. تثاقلت خطواته، فأفلتت يديها وراحت تخطر على أطراف أصابعها تجر وراءها فستانها الأبيض الهفاف ، وكأن راقصة ( باليه ) حطت من السماء تحمل قفزاتها نسمات الليل الباردة ، فتبعثر خصلات شعرها ، وتلوح بأطراف أكمامها وفستانها كلّما تحركت مستأذنة سويعات الليل المتبقية أن تمهلها لحظات حتى تتأرجح ..
بقفزة ، جلست على الأرجوحة ، ثم قبضت على سلاسلها الحديدية وتصاعدت تنهداتها .. وبصوت حالم كليلها، ناعم كملبسها ، طفولي كروحها .. نادته : " هلا أعطيتني دفعة ؟!"
تحولت عيناه إلى السماء كمن يتأمل النجوم وبروجها وينشغل بعدّها وصفّها ..ربما ينتظر نجما يخفت نوره أوآخر يهوي أو ثالثا يهمس وسط هذا الليل الغارق في السكون ، فرفعت صوتها أكثر : " أعطني دفعة أرجوك ! "
لم تصبر حتى يلتفت إليها هذه المرة ، أخذت تحرك جذعها إلى الأمام وإلى الخلف وتخبط الأرض بطرف قدمها ثم تدفع نفسها إلى الوراء ..
وبدأت الأرجوحة تتحرك ..
إلى الأمام .. إلى الخلف .. إلى الأمام .. إلى الخلف
كسؤال وجواب صوت احتكاك السلاسل الحديدية الصدئة .. إلى الأمام " يسأل " ويعود إلى الخلف " فيجيب " .. وهكذا تتحرك الأرجوحة !
إلى الأمام .. إلى الخلف ، يزداد الاحتكاك ويزداد الصوت .. يختنق بين عقد السلاسل الحديدية ليبدأ بالصراخ كصوت طفل يعلو صراخه .. بالسؤال والجواب
إلى الأمام .. إلى الخلف .. ( كبندول ) ساعة بدت الأرجوحة ؛ دقاتها زفرات أنفاسها وصراخ السلاسل .. بالسؤال والجواب
من الخلف إلى الأمام .. نصف دائرة لن تكتمل لتفلت قبضتها وتكسر سلاسلها الحديدية وتطير .. لكن الصوت يصرخ ويختنق بين السؤال والجواب
وهكذا تحركت عيناه الزرقاوان معها ترمقان ابتسامة ثغرها وسط صراخ السلاسل وذقنها يرتفع إلى السماء بانتظار لثم الهواء ومداعبة وجنتيها ، وشعرها الأحمر يحلق حول رأسها ثم يعود إليها معانقا رأسها وجيدها ، وقدها الدقيق الحفر والخرط يتمايل مع الأرجوحة .. إلى الأمام وإلى الخلف ..
تسلل من ورائها .. وفي لحظة توقف ( البندول ) وكفّ الصراخ وعلق بين السؤال والجواب وشهقتها ، ثم لحظات وأتبعتها مئات الشهقات والزفرات ، ارتجت لها الأرجوحة ، وبدفعة قوية ... قوية جدا ... وسط صراخ السلاسل وصراخها أفلتت قبضتها إلى غير طيران وانكسر البندول وعادت الأرجوحة للسؤال ولا جواب
........
حملها بين ذراعيه :
" هيا يا حبيبتي قد تأخرنا، السيارة ليست بعيدة .. هيا اركبي .. لا، انتظري ! ، أنا من سأحملك إليها وأجلسك على مقعدها كطفلتي المدللة ،أخشى على عروقك النفور .. أخشى على يديك مسّ الحديد !
هل تعبت من التأرجح؟ ، لنعد إذن إلى البيت .. تريدين جولة! .. لا وقت لها ، لنعد إلى البيت نسرق لحظات الليل الأخيرة
ما أجملك وشعرك الأحمر متدل إلى جانب عنقك ! .. أدفعه إلى الخلف ؟ .. نعم هكذا أفضل ! ، فجيدك يأتلق بياضا كاللجين تحت فستانك .. وشفتاك الحمراوان ، هل لي بـــ .. حسنا في البيت في البيت ..
لم لا تتحدثين معي ؟! .. عرفت ! .. تحبين صوتي ، تعشقينه قد تسكتين الدهركله كي تسمعيه ، أليس كذلك ؟! .. هيا ردي قولي نعم !
إذن أنت تخاصمينني ؟! لأنك تريدين جولة ؟ .. حسنا فلنقم بجولة صغيرة
ماهذا ؟ ! .. تراب على جبهتك ؟! .. انتظري ، سأمسحه لك بمنديلي ثم أشمّه كي أتنفس ترابا لامس جلدك .. وهذا ؟! .. دم يسيل من فمك ؟ حسنا سأمسحه لك، لا تلوثي أناملك الرقيقة يا حلوتي !
أين تريدين الجولة ؟ عند البحر ؟ تعلمين أني لا أحبه! .. الحديقة حيث الأرجوحة ؟ .. فليكن !
أ إلى هذا الحد أعجبتك الأرجوحة ؟ .. هيا قد وصلنا .. انتظري ، لا تنزلي ! .. سأحملك أنا وأضمك أنا ، لا تعفري قدميك ولا تثيري أعصابك ، ستكونين بين ذراعي !
هاهي الأرجوحة! .. سأجلسك عليها يا أميرتي .. لا تستطيعين الجلوس وحدك ؟ .. حسنا سأجلس أنا وأضعك على رجلي ! وأضم خصرك إلى ! .. انظري ، الأرجوحة بلا صوت .. السلاسل بلا صوت ، أرأيت عندما ركبت معك ؟ هكذا أفضل ! ... فلتهدئي إذن ولتريحي رأسك إلى كتفي .. وأنا سأدفع الأرجوحة..
ما أجملك وأنت ساكنة كطفل نائم وأنا أحتضنك ! .. فأنا حبيبك وأنت ملكة فؤادي وأنا مليكك .. لقد اكتفيت ،هل اكتفيتي ؟ .. ماذا ! ،تريدين البقاء ؟ لا هيا إلى البيت ... هيا إلى البيت ! ... لا؟!! ... حسنا ..."
حملها بين ذراعيه وأجلسها على مقعد خشبي بالحديقة ورأسها متدلٍ إلى الوراء وذقنها إلى أعلى ، لكن ما من هواء يداعب وجنتيها .. قد يطير شعرها ولكن كطائر منكسر الجناح لا يقوى على التحليق ولا يقدر على الهبوط ، فاستند إلى المقعد الخشبي متهدل الخصلات قد انطفأ بريقه الأحمر
وبعد دقائق عاد ومعه أدوات (البستنة) ، وانطلق نحو الأرجوحة وأخذ يحفر تحتها .. ويحفر .. يخرج ما في باطنها من التراب الذي اختلط بقطرات مالحة شفافة لا زرقاء كعينيه
" هيا حبيبتي .. تودين البقاء هنا .. قد أعددت لك الفراش ، هيا استرخي فيه .. نعم لا سرير هنا .. أنا آسف ! .. ولكن هكذا يلائمك .. أنا آسف !!"
أنزلها إلى الحفرة وأهال عليها التراب " الوداع .. يا حلوتي !"
دينا نبيل -- مصر