خربشات الثقافية
صور رافقتني Eniie10

خربشات الثقافية
صور رافقتني Eniie10

خربشات الثقافية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
Kharbashatnetالبوابةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولتسجيل دخول الأعضاء

 

 صور رافقتني

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
عبد الرحيم النصيري

عبد الرحيم النصيري


ذكر
المواضيع والمشاركات : 8
الجنسية : تونسي
العمل/الترفيه : أستاذ
تاريخ التسجيل : 11/06/2012

صور رافقتني Empty
مُساهمةموضوع: صور رافقتني   صور رافقتني Uhh1011/6/2012, 1:30 am

مطر رذاذ يهمي على المدينة ما زالت تنفض بقايا نعاس. الشوارع مقفرة خلا بعض من يمر على عجل بين الحين والآخر، يرتفع وقع خطاه قادما ويخبو مبتعدا. والصباح خريفي دافئ على رطوبة يتمطى بتؤدة الواثق ينثر أثره حيثما مر.
والذكرى خدر يغري بالاسترخاء بعد طول مسير.
عجبت. لا أكاد أذكر منذ متى بدأت السير تتقاذفني الأرصفة بلا وجهة. لا أذكر غير أنني في لحظة ما انسللت من نومي وسرت...

دلفت إلى المقهى واتخذت مكاني المعهود حذو النافذة تطلّ على البحر. أومأت إلى النّادل محيّيا، فأسرع يحضر ما تعوّدت أن أطلب، وكنّا قد أصبحنا أصدقاء منذ أشهر...

أذكر أنّني يوم أتيت المقهى أوّل مرّة، جلست بنفس المكان وأخرجت من المحفظة التي لا تفارقني كتابا. فجأة، وأنا مستغرق في المطالعة، أحسست بوجود شخص ورائي ينظر في ما أقرأ. لحظته بطرف خفي فإذا هو النادل يقرأ باهتمام شديد حتّى إنّه لم يلحظ أنّني تفطّنت إلى وجوده أو ربّما لم يعر ذلك كثير اهتمام. لم أشأ أن أنهره وواصلت أرقبه متعجّبا.
كنت أعجب، بغرور الشّباب، وأنا الطّالب المثقّف، أنّى لنادل أن يهتمّ بالكتب.
أحسّ أنّني انتبهت إليه فاعتذر محرجا. ابتسمت، وفي نزوة من نزواتي أو لعلّها لحظة صفاء عابرة، دسست في يده الكتاب هديّة منّي...

أحضر النّادل القهوة العربيّة والجريدة وتجاذبنا أطراف الحديث برهة ثم أنصرف إلى عمله. وعدت إلى وحدتي. لا جديد في الجريدة يغري بالقراءة. نحيّتها جانبا وأخذت ورقة وقلما.

بنزرت في 3 أفريل 1984
قتلته، أعترف أمامكم أيّها السّادة...

ثم إن أحد معارفي رآني من بعيد فجاء يجلس إلى طاولتي. طويت الورقة مسرعا ودسستها في المحفظة.
كنت أريد كتابة قصة تلخّص، رمزا، فترات من حياتي... وكان "الضحيّة" الذي اعترف بقتله في مستهلّ كلامي هو الخوف. كان الخوف يضغط على أنفاسي، يشلّني، يعطّل فيّ الحياة. الخوف من أبي والخوف من الآخرين والخوف من كلّ متسلّط حاكم. صوّرت لي فورة الشّباب وموجة الإضرابات والمسيرات التي انخرطت فيها وقتها بكل اندفاع أنّه يمكنني أن أقهر هذا الوحش البغيض داخلي. وكنت أزمعت أن أجعل من كان يغذي الوحش ينتقم لهيبته المنقوصة منّي في محاكمة ساخرة تفضحه...
مرّت السّنوات ونسيت الورقة والقصّة.
ذات يوم، وقد غادرت الجامعة مطرودا، كنت أقلّب بعض كتبي وكرّاساتي فوجدت الورقة وعاودتني الرّغبة في الكتابة. كنت وقتها أنوء تحت شعور قاتل بالفشل، فشلت في دراستي وكنت خارجا لتوّي من علاقة عاطفيّة فاشلة دمّرت ما بقي لديّ من أمل.
أزمعت أن يكون الذي أقتل هذه المرّة هو الأمل. كان المولود غضّا جميلا أرقبه ينمو... شهدت صغيرا ثم يافعا ترنّحه ثم تعثره وسقوطه... خطّطت أن أجعله يصاب بمرض خبيث يقعده ويشوّهه، وينهكه وجع لا سبيل لبرئه فأقتله رأفة ليستريح ويريح فيقبض عليّ...
لكنّني، لأمر ما لعلّه كرهي الفطريّ للنهايات، لم أكمل القصّة.
ودار الزّمن دورته وفعل فعله في قلبي وفي جسدي. أردت ترتيب الأوراق التي تكدّست لديّ. رسائل لم أبعثها ونسيت لمن كتبتها وخواطر ومحاولات شعريّة ونثريّة.
وأنا أعاود قراءتها ينتابني شعور غامض، مزيج من إعجاب وإشفاق وتهكّم.
أين أنا الآن من ذلك الشّاب اليافع؟ يطير به الحلم حينا ويكسر اليأس جناحه أحيانا. يثور ويرجو، يحنق ويعشق، يحلم ويستفيق مذعورا.
الورقة ذاتها وجدت مكتوبا عليها بخطّ ذاك الشاب اليافع الذي كنت، وبين السّطر والسّطر عقدين من الزّمن ونيف: "الكلام كالقيء يذرعني، أنوء به وأودّ لو أطرحه. يتأبّى على الخروج فأشقى. أترى الكلمات وحوش ظلام ترهب النّور؟ أم تراها ورم يلتهم داخلي لا يشفيه كل عقار، ينمو فأضمر ويحيا لأموت؟" ومع الكلمات رسوم لوحوش، أوادم برؤوس ثعابين وأشجار بسيقان ضفادع وشظايا قلوب وأنصاف عيون...
وقد غلبت على الورقة الصّفرة وتناثرت عليها آثار لقطرات لعلّها قطرات المطر الناّزلة من سقف بيتنا ذي الغرفة الوحيدة كعادتها كلّ شتاء أو دمعات فرّت من عينيّ كما اعتدت أيّام الوجع.


فتحت عينيّ في بيت متواضع لا يكاد يجد قوت يومه. وكانت أقصى أمنيات الوالد، رحمه اللّه، أن يحصل لنا من العمدة على شهادة فقر تخوّل لنا الحصول على بعض الكتب المدرسيّة مجانا نعيدها آخر السّنة الدّراسيّة، كما لو أنّ حالي وإخوتي لا تعبّر بذاتها عن فقرنا البيّن وتستوجب ختما من جهات مسؤولة.
تقدّمت بي السّن فخبرت مرارة الظّلم.
نشأت ساخطا متبرّما، متحفّزا للاحتجاج والعراك. وكان والدي يحسّ بما يعتمل في صدري. ويحذّرني، بصبره العجيب، من مغبّة الإفصاح عنه. فدراستي، كما يقول، هي طوق النّجاة الوحيد لي وللعائلة من ورائي. وتهمة التّحريض على الشّغب كانت، في تلك الأيّام، سيفا مسلّطا على التّلاميذ أمثالي، تلقي بهم خارج قاعات الدّرس أو داخل أسوار السّجن.
عرفت بذلك أيضا الخوف والإحباط فزاد سخطي ونمى تبرّمي.
انتقلت إلى الجامعة فانحسرت مساحة الخوف أمام تنامي السّخط. وجاءت الوظيفة فانخرطت بكلّ كياني في العمل النّقابيّ.
مرت السنوات تزيد تجاربي. خبرت الناس فانحسر في مخيلتي كل نظيف جميل. رأيت رهطا كما الجعلان لا تنتشي إلاّ وسط روث البهائم، تخاف الطّهر خوفها من الموت لأنّ في الطّهر موتها.
عشت الغربة وسط الجمع. شيء ما كان يموت في صدري رويدا رويدا. ما عدت قادرا على الإحساس. انصرفت إلى واجباتي أتفانى في أدائها بلا روح، أدرّس تلاميذي وآخر كلّ شهر أقبض راتبي فأعول عائلتي. ثمّ أدرّس وأنتظر نهاية الشّهر من جديد. وأرقب مرور السّنين.
وذات خريف، وقد مضى من اللّيل ثلثاه، وكنت قد انقطعت عن منزل العائلة مدّة مغاضبا، جاءني من يوقظني من نومي ينعى أبي.
أوّاه يا أبي ما كان لك أن تمضي بدون وداع.
دخلت عليه الغرفة مسجّى وعندي شجون أودّ لو أفضي بها إليه فيسمعني ويصمت. لكنّ المعزيّن أحاطوا بي من كلّ صوب يقبّلونني مخفّفين عنّي فخرجت وانزويت في ركن وبكيت... بكيت كما وددت لو أبكي منذ سنين. لم أخجل من الزوّار يشاهدونني لم ألق بالا لكلماتهم المصبّرة. هم أصلا لا يفهمون ما أجد.
انقطع خيط كان يشدّني إلى الحياة فتهت.

"وااا... يمّة ! وااا... يمّة !" يرتفع الصّوت حزينا مستغيثا. يمدّ الصبيّ واو النّداء مدّا طويلا يريد للصّوت أن يبلغ أقصى مداه.
نباح كلاب في الجوار ودجاجة تقوق كأنّها تعاند نداء الصّغير. يعلو الصّوت مرارا:
- وااا... يمّة !
تصيح الدّجاجة مجدّدا في ما يشبه السّخرية. التقط الفتى حجرا ورماها به فقفزت غير بعيد وواصلت صياحها. انتفض كمن به مسّ، فراح يلتقط ما تقع عليه يداه يرمي به الدجاجة. فابتعدت وصياحها لم ينقطع. تهالك على الأرض وأجهش بالبكاء.
الصّدر يعلو ويهبط بالنشيج والدّمع يخالط المخاط، سيل من الدّمع، حبسه منذ الصّباح، يفيض حزنا وألما يغسل قلبه الصّغير.
كان من حين إلى حين يتوقّف عن البكاء ويمسح أنفه بكمّ ميدعته ثمّ يتحسّس سرواله كأنّما ليتأكّد ويعاوده النّحيب.
- وااا... يمّة !
ويعود للبكاء.
لا شكّ أنّها، كالعادة، في بيت خاله المجاور. ليته يستطيع الذّهاب إليها. لكنّه كان يخشى سخرية زوجة خاله ولسانها اللاّذع حين تراه على حاله تلك. بل لعلّ أولادها وقد عادوا من المدرسة قد رووا لها القصّة بعد بتفاصيلها المخزية. أم تراهم لم يسمعوا بما حدث.
كان في القسم، يجلس كما أمره المعلّم آخر الصفّ. أحسّ كوقع السكّين في أحشاءه. قاوم وصبر لكن الألم يشتدّ.
فكّر أن يستأذن. هذا المعلّم لا يطيقني. ماذا لو سخر منّي أو ضربني؟ عليّ أن أحتمل وأصبر. سيدقّ الجرس وأستريح. لكن الألم يشتدّ والجرس لا يدقّ. عشرات الأصابع القاسية تعتصر أمعائه في غير رحمة.
- "سيدي أستريح".
واصل المعلّم درسه كأن لم يسمع أو لعلّه تجاهل الاستغاثة.
- "سيدي"... لا جواب.
- "سيدي !"
كانت الصّيحة على قدر الألم الذي أنطقه، دوّت تمزّق سكون القسم فالتفت الجميع بدهشة. انتفض المعلّم كالملدوغ واتجه نحوه بخطى واسعة.
وامتزج ألم الصّفعة المفرقعة بلذّة الخلاص. أحسّ صخرة تنزاح عن بطنه وتنزل سائلة مبلّلة سرواله وحذائه مكوّنة على البلاط من تحته بقعة صفراء...
صرخ المعلّم متقزّزا: "يا كلب... يا حيوان". وانهالت الضّربات. كانت نشوة الخلاص من معاناة زادت عن السّاعة تخنق صيحات الألم في حلق الطّفل وقد ألقاه المعلّم الحانق أرضا. إحدى الرّكلات أصابت الوجه ففلقت الشّفة وأدمت الأنف. سال الدّم قانيا دافئا... وغاب الفتى على دنيا قست عليه كثيرا...
فتح عينيه فإذا ثوبه مبلّل كمن انتشل لتوّه من بئر غامرة وقد زال ما سال عليه من بطنه وفمه وأنفه. وإذا بجانبه زميلين له يناولانه محفظته قائلين:
- قالك سيدي برّه روّح...

- وااا... يمّة !
ولا من مجيب. أحسّ دفء الشّمس الخريفيّة يغمر جسمه المنهك ويجفّف ثوبه المبلّل. وأحسّ، للمرّة الأولى في يومه ذاك، بخدر لذيذ يغمر حواسّه واستسلم لنوم مضطرب.
استيقظ على يد تهزّه. فإذا أمّه توقظه. سرعان ما فهم أنّها لم تسمع بما حدث فعزم على ألاّ يخبرها بشيء خوفا من السّخرية ومن غضب المعلّم حين يكتشف أنه قد وشى به.
مدّت له أمّه صحن الطّعام فوضعه على ركبتيه وطفق يأكل. أحسّ الطّعام باردا لا طعم له ولم ينبس خشية أن يثير غضبها. تابع البلع بتؤدة ودمعة تنساب على خدّه وتمتزج بالطّعام في الصّحن تختزل ألم يوم طويل.
وعلى حين غفلة من أمّه أسرع يفرغ الصّحن أمام الكلب فأتى على الطّعام في بضع لعقات. ثم حمل الصّحن يغسله موهما أمّه أنّه أنهى غدائه. وليس كالخوف معلّما للكتمان والحيلة لدى الصبيان.
التقط محفظته وانزوى يعدّ تمرينا كلّفهم به معلّم العربيّة لفترة المساء. طُلب إليهم صياغة فقرة تتحدّث عن مشهد صيد. لم يكن المشهد غريبا على الفتى فقد كان بيتهم يقع على سفح جبل تكثر فيه الأرانب والثّعالب وطيور الحجل وغالبا ما يرتاده الصيّادون. لكنّه كان يكره الصّيد كرها شديدا.
ذات يوم سمع صياحا وجلبة أسفل الجبل فجرى يستطلع الأمر. كان أحد الرّعاة قد شاهد ثعلبا يدخل غارا. تجمّع الرّجال تتبعهم الكلاب حاملين فؤوسهم ورفوشهم ومعاولهم وأحاطو بالغار من كلّ صوب. سدّوا كلّ المخارج بالقش وأضرموا فيه النّار. لم يتركوا سوى منفذ واحد تحلّقوا أمامه متحفّزين. ومرّت اللّحظات ثقيلة متوتّرة. أطلّ الثّعلب يدفع أمامه جروين فتصايح النّاس وتدافعوا يتملّون المشهد.
أبدا لن أنسى ما حييت تلك النّظرة التي خيّل إليّ أنّني أراها في عيني الحيوان المرعوب. تصوّرت بعقلي الطّفولي وأنا أقرب ما أكون من الحيوان المرتعش أنّ اللّحظة الأصعب ليست لحظة اختراق الضّربة للأحشاء أو تهشيمها للجمجمة. بل الأصعب هي لحظة ترقّب ما سيحدث. لحظة انتظار الطّلقة أو الطّعنة تأتي أو لا تأتي بالرّدى المحتوم. بصيص خلّب من أمل في النجاة، رغبة في الاختباء ولا مخبأ، توق للحماية وما من حام. تقف الحياة والخوف وجها لوجه. حينها يصير الموت خلاصا.
اختبأ غير بعيد حتّى غادر آخر المتفرّجين المكان. ثمّ وقف على أشلاء الحيوانات وبكى.

تنسل الشمس إلى خدرها كاعبا لعوبا فتتورّد السماء وتهب نسائم ندية تبشر بوصل يطول.
والآن يحلو اللقاء. ابتعد مسرعا فابتعدت بيوت القرية ولم يعد يرى منها إلاّ أنوارا مختلجة ولا يسمع إلاّ نباحا أو خوارا أو ثغاء. مشى كالحالم حتى بلغ بستانا تهاوت أحجار سوره وغطّت أديمه الأشواك والأعشاب اليابسة بين أشجار التين والزيتون واللوز...
هنا كان اللقاء. هنا تتكلم الأشياء. يعرفني الشجر والحجر وأعرفه. هنا جلست، هنا حلمت غرّا مقبلا على الحياة، هنا ثملت ببشائر الحياة المقبلة وتجرعت ما صوّره طيش الصبا مرارة القهر. هنا توسدت ركبة أميّ أسمع حكايا الجن والأشباح والحوريات والأمراء وأحلم بالبحر والحرب والبطولات. وهناك حدثني أبي لأول مرّة حديث الكبير للكبير. طلب رأيي في أمر وسرّه أنّني وافقته...
في ظل هذه الشجرة جلست وعلى جذع تلك حفرت حروفا وصورت رسوما.
وهذه الشجرة، وهي أحب الشجرات إليّ، راقبت أبي يغرسها. لطالما أفضيت لها بما يثقل قلبي الصغير فانزاح عنّي ما أغمّني وشاركتها أفراحي الصغيرة فإذا الأوراق تزداد خضرة كأنّما امتزج منّا النسغ والدم.
في ظلّها بايعك القلب الصغير الذي لمّا يعرف الكره حبيبة ذات ربيع. كم مرّة عانقت منها الجذع يافعا وقبّلته وقد رأيتك فيها ورأيتها فيك. ما حفرت مرّة في الجذع حرفا خوف إيلامه... إليه آويت يوما وبكيت مرارة وقد صفعتني بعد أن بحت لك ببعض وجد بك يعتمل في صدري. يومها لم تقدر شجرة أبي على أن تخفف من ألمي. انكفأت على وجهي في التراب أنتحب لساعات. تألمت لقسوتك وجحودك وأبكاني عجزي عن كرهك. كنت أود أن تمحي الدموع المنثلّة من عيني صورتك. وانهار كل شيء من حولي إلاّك شامخة في صلف ولا حول لي... كم وددت وقتها لو أكرهك وأرتاح.
هنا تحت ذات الشجرة وقد مرّت من العمر سنوات عدت شابا، أحرق رسائل كتبتها لك وأنا أعلم أنني لن أرسلها واحترقت وفي المسامع بعض من ضجّة فرح تنطلق من داركم تزفّك لمن اخترته دوني. وكم وددت يومها أيضا لو كرهتك فأرتحت.
اعذريني. ما تصوّرت يومها أنّني أعود إلى الشجرة ذاتها ثالثة ولمّا يتم الحول دورته أبكيك وقد سلّمك ألم المخاض للموت قبل أن تري بكرك...
أأنا الصبي أعود أخرى إلى هنا شيخا وقد مضى من العمر أعظمه أبكي لعلّ الدمع يغسل صورة تخرق الثرى نحوي فتحرق القلب؟ أأبكيك أم أبكي الصبي وقد رحلتما أم أبكي الشيخ الذي لا أزال؟
كم تمنيت لو حفرت ذاك الربيع حروف اسمك على جذع شجرة أبي الغالية.

بداخلي صوت يرجوني أن لا أصدّق ما تيقنت منه. ماتت أمّي.

لحظات الترقب كانت ثقيلة طويلة. لا أذكر تماما كيف عشتها... يتواصل تدفّق الأسماء برتابة... فجأة، استدارت العيون نحوي تحملق فيّ، وبتزامن عجيب كأنّما تدرّبت على الدور منذ شهور، طفت ابتسامة ترتسم على وجهي... كان نجاح الدّور تامّا. ابتسامة اللامبالاة أفحمت كل كلمات المواساة المتحفّزة للانقضاض على مسامعي بكل سخاء المشفقين... بقيّة المشهد مرّت دون كثير عناء. أذكر أنّني ضحكت يومها كما لم أضحك، ثرثرت، هنّأت بل وواسيت. قصدت أن يكون ذلك بتحفّظ لا يشي بما أضمر. نجح الدّور تماما. وغادرت دونما عجل وفي القلب غصة ورغبة في أن لا أرى على الأرض مخلوقا...
على الرصيف وأنا أنتظر القطار كانت الشمس حارقة... لا طاقة لي على المكوث حيث الناس يحتمون في الظل. ثيابي الملتصقة بجسدي عرقا تغلّني فيشتد اختناقي. مضيت أذرع المكان جيئة وذهابا لا أجد النفس حتّى جاء القطار. وللقطار في نفسي هيبة...
هناك في العربة المكيّفة حيث المقعد الوثير استعدت التنفس وأغمضت عينيّ. كان على الستار أن ينزل. لحظة أعرف قسوتها، تمنيت ألا تأتي من طول ما تهيّبتها. أسلمت أمري لنفسي وكانت المواجهة حتميّة لا يجديني تأخيرها. وليكن ما يكون.
صور كالمطارق تنهال على رأسي. تسلمني الصورة للصورة. يتبدّى الواقع بتؤدة مرّة وإصرار بغيض مرعبا في حقيقته والهروب محال ولا حيلة. وحدي كما اشتهيت كنت أصارع. والوحش داخلي رهيب. وأنا في القطار...
ومن مكبّر الصوت في العربة يتسلّل صوت يغنيّ سائلا القطار أين المسير. شجن اللحن شدّني وسرحت...
أصل المنزل. أحسب أن يكون ذلك ليلا. الجميع ينتظرون كما اعتادوا. وأول من يسألني أبي كعهدي به منذ تعلّق أمله في الخلاص من ضنك فقره بنجاحي في الدراسة والتحاقي بالوظيفة. ما خذلته مرّة... فأحبّني. هذه السنة وهي سنة التخرج أحضر الخروف أشهرا قبل الامتحان. كان يقول واثقا: "ستنجح وأذبحه".
قبل سنتين أزمع الحج وأحضر خروفا يولم به للأقارب والجيران وكل من يأتيه مهنّئا. خروفا ألينا أقرنا بهي الطلعة يطعمه ويسقيه بنفسه كامل اليوم. لا يشغله عنه انصرافه إلى الاستعداد للحج. وكان يقول إن الخروف صدقة منذورة لله والله طيب لا يقبل إلاّ طيبا. وأبي طيب بطبعه بشهادة كل من أحبه من أهل القرية وما جاورها من القرى وأبي كريم لا يثنيه فقره عن مساعدة المحتاج وأبي جلد صبور خبر النوائب وغلبها. وأبي حبيب إلى نفسي قريب من قلبي.
حل الفحص الطبي للحجيج وأوصى الأطباء بمنعه من السفر لاعتلال في قلبه وارتفاع في ضغط دمه ووصفوا له دواء لا ينبغي أن يقلع عنه ما امتد به العمر. ما عاد يطيق رؤية الخروف. يصرخ مطالبا أخي ببيعه. أبعده من أمامي، سأقتله أو أقتل نفسي. ذات صباح وجدنا الخروف في مربطه وقد التف حول رقبته رباطه فخنقه. ولم يجرؤ أحد على السؤال.
كان سؤاله عن نتائجي مجرّد تأكيد لإجابة يعرفها حتى قبل الامتحان. إجابة لا تتغير، تكرّرت فاعتاد عليها. يعرف أنه سيسمعها وقد سمعها من قبل. كان يبتسم وهو يسمعني أجيبه بما انتظر ويقول في زهو يملؤني حياء: "ما أتيت بجديد... كنت واثقا من نجاحك. كيف لا ينجح ابني؟ ألم أقل لك لا داعي للخوف؟ أعرف ابني أكثر ممّا يعرف نفسه." ويقبّلني. ويشهد الله أنني ما خبرت في حياتي شيئا أفرحني أكثر من قبلة يضعها أبي على جبيني وكلمة شكر يقولها بزهو الأب يصنع ابنه...
وتبتسم أمي ابتسامة الرضا. هي لا تكاد تفقه هذه الأمور ولكنها تفرح لفرحنا وما دام الوالد يبتسم في رضا فالأمر لا بد أن يكون خيرا عميما. وتمضي تعدّ دجاجاتها تذبحها دون تردد للنسوة يتقاطرن على المنزل مهنّئات.
هذه المرّة، في سنة التخرّج بالذات...
"تذاكر، تذاكر..."
صوت المراقب ينتشلني فأطفو إلى حين. كم تمنيت لو يبطئ معي قليلا، لو يسألني بعض الأسئلة أو يتعطّل المقراض في تذكرتي...
"تفضّل".
ناولني تذكرتي المثقوبة دون أن ينظر إلي وعدت وحيدا لأفكاري.
"نجحت يا أبي". حتى الابتسامة المزروعة على شفاهي تبدو حقيقية. لم تجهدني كما تصورت. كما لو أنني تعودت عليها.
"كنت واثقا..." رحماك ربّي. من كل ما قد يقال كان هذا أكثر ما يؤلمني. دعوت ألاّ يقوله. وزعت القبلات أتبادلها مع المهنئين بالنجاح وعلى الشفاه ابتسامة تضعط على فمي تكاد تدميه وفي القلب نحيب. حتى أخي الأكبر وكان هو الذي نصحني بقول ذلك لم يقدر على مقاومة الوجوم الذي علا وجهه وهو يسمع.
منذ خمس سنين وأنا أعود إلى المنزل حاملا شهادة الباكالوريا لمحني من فناء المنزل حيث كان يضطجع. ركض للقائي حافيا لا يعبأ بأشواك الطريق وحصاها تخدش أقدامه. قبّلني، حضنني، رفعني بساعديه المفتولين في الهواء ثم عاد يحضنني ثانيا. عجبت لدموع الفرح تملأ عينيه وقد عهدته صلبا لا يظهر عليه تأثر.
هذه المرّة حافظ على تحفّظه. لم يزد على القول: "المهم أنّك أتيت. ما حدث قد حدث". كم أتمنّى أن أنفذ إلى أعماقه فأقرأ ما يحس به تجاهي... فكّرت في الاعتذار لكن الكلام احتبس في حلقي وخشيت أن أثير غضبه فسكت... أعرف عصبيّته وتبرّمه بالضعف والضعفاء وكرهه التكلف.

أجفلت، سحبت يدي كالملسوع.
"الفضل لله أولا ثم لك في شفائي. خبر نجاحك أذهب عني السقم". قالها مكبّا على يدي يقبّلها.
أي مجرم أنا؟ رحماك يا الله ممّا أجد. أنا الجلاد والضحية. ابتسمت ابتسامة التشفّي. أستحق أكثر من كل هذا العذاب. أنا من خذل هذا الوالد المغدور. "ابتسم... ابتسم ليقال نجح". أبتسم وللابتسامة على شفتي وقع السياط. شفاهي تؤلمني. أحسّها تتيبس تتشقق وتنفجر.
أنفجر. وعلى صدر أبي الممدّد على فراش المرض بالمستشفى بكيت طويلا لعلّي أغسل بالدمع دنس النفاق.
"فشلت يا أبي" وددت لو أصرخ. لو أصدع بالحقيقة الموجعة وأنهي الكابوس. خشيت على القلب الضعيف النابض في ذلك الصدر الذي استقبل دمعي بكل حنان الوالد من هول الصدمة. تحاملت أكفكف الدمع باسما ولم أنبس. وانتهى وقت الزيارة. صوته مازال يتردد في مسامعي يطلب من أخي أن يذبح الخروف فور عودتنا إلى المنزل، ملحّا على أن لا نؤجّل ذلك لحين خروجه من المستشفى. "ايتني ببعض الشواء في زيارة الغد". تساءلت وأنا أتدحرج خارجا: "أما يحق لأخي أن يمقتني وهو يسمع ما يسمع ويرى ما يرى؟"
حث أخي الخطى يلحق بي ودون أن ينظر إلي هتف: "حذار، لا تخبر أحدا غيري" ما زاد كلمة قبل أن نصل. وعلى مشارف المنزل لكزني هامسا: "حاول الابتسام وهم يهنئونك." ابتسمت وأنا أتقبل التهاني بالنجاح والشمس تميل إلى الغروب والبيت يعج بالجيران وأنا وحدي... ساعات وآوي إلى الفراش أستريح من تعب السفر والابتسام.

صباح ذلك اليوم بالذات وقد كنت أتسكع على غير هدى بشوارع العاصمة أحاول ترتيب أفكاري ولا أقدر على مجابهة الأهل صادفت أحد أبناء عمومتي. أخبرني أنه قادم لتوه من زيارة أبي الراقد بالمستشفى إثر نوبة قلبية. دس في يدي بعض المال وألح على في الإسراع بالعودة لعيادته.
خوفي على أبي مسح كل خوف غيره. أقابله وليكن الطوفان.
قد أتيتك يا أبي فانظر ماذا ترى.
وأمام المستشفى قابلني أخي الأكبر. عاجلته بالخبر قبل أن يسأل: فشلت. لا طاقة لي على مزيد التصنع. فهل أكون أخطأت في مصارحته؟ "المهم أنك أتيت. ما حدث قد حدث ولكن لا تخبر أباك أنك لم تنجح. ستكون الصدمة قاتلة."

بعد أيام غادر أبي المستشفى. ذبح الخروف بيده احتفالا بشفائه كما قال. لم أرد أن أشهد إخباره بالحقيقة فهربت وما ذقت من لحم الخروف شيئا.
أشهر طويلة مرّت وأنا أتحاشى نظراته. كنت أتزايل أمام صمته الصّاخب القاسي. عيناه تقدحان مرارة الخذلان. لم يغفر لي أنني خذلته وقد كنت له أملا. صمته سحب منّي إحساسي بوجوده وعذّبني. انسحب بغير ضجّة وتركني لنفسي وهو موقن أن أكون معها غير رحيم. ما شفع لي عنده حتّى الشغل الذي حصلت عليه أشهرا بعد ذلك...
وحيدا مع نفسي كنت، فارغا مفرغا إلا من رغبة في الانتقام جامحة. أنا طالب ثأر وغريمي داخلي. أجهدت نفسي في العمل هروبا أو تشفيا. نكاية حطّمت داخلي كلّ ما بنيت سنيّ الرضا. خدش الإطار فكان علي أن أشوه الصورة حتّى تكون الوضاعة في أبهى مظاهرها دونما نشاز. بصبر التشفي أطفأت واحدة بعد أخرى نقاطا بيضاء صنعتها أوقات الرضا عن نفسي وقد كانت تمنحني بعض راحة فصرت أستكثرها. كان عطشي إلى دمي يشتد مع كل طعنة أغرسها بصدري...
أما آن لك أن ترضى؟
وتهت.
مات أبي.

السّاعة جاوزت الثالثة. لحظات الترقب كانت ثقيلة طويلة. والدقائق دهور أحاول ملأها باسترجاع بعض حديث بيننا.
من بعيد واليأس أقرب ما يكون لمحتها فانتفضت منّي بسمة جذلى تخرق الحجب.
الابتسامة لم تجهدني. كانت صادقة هذه المرّة، تشي بميلاد جديد.

"نجحت يا أبي". طيفه كان معي...يعانقني بلهفة وفرح.
"كنت واثقا..." أعرف أنه يقولها وأسمعها وأفرح. كان واثقا وكنت طول الوقت أعرف أنني لن أخذله. ما بي طاقة على ذلك.
"نجحت يا أبي".
مددت لها يدي مصافحا وروح أبي من حولنا تباركنا في حنو.
رويدا رويدا كان على الستار أن ينزل... ولم أكن خائفا.


[img][/img][img][/img]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://www.facebook.com/pages/Letters-Ive-written/2393340394666
المخربش العام

المخربش العام


ذكر
المواضيع والمشاركات : 471
تاريخ التسجيل : 17/05/2008

صور رافقتني Empty
مُساهمةموضوع: رد: صور رافقتني   صور رافقتني Uhh1011/6/2012, 9:02 pm

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]





[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
الشاعر محمد الوزير
المشرف العام
المشرف العام
الشاعر محمد الوزير


ذكر
المواضيع والمشاركات : 405
الجنسية : يمني
العمل/الترفيه : شاعر ومحام - بوزارة الصناعة والتجارة
تاريخ التسجيل : 10/05/2012

صور رافقتني Empty
مُساهمةموضوع: رد: صور رافقتني   صور رافقتني Uhh1012/6/2012, 3:30 am

نص قصصي إبداعيْ يحفر في الذاكرة ماتلوناه من القصص التي تحفز الذات إن بطريقة أو بأخرى , أن الأمل متعلق بتلابيب العمل , ولا محل للفشل , وعقدة الذات والتسلط الأبوي على مستوييه الأسري أو الوطنيْ هما من أعاق نمو الحركة الإبداعية أو غير هويتها , فانسلختْ على غير هدى ,, ماأبدع الحرف واجمل الوصف في قالب تشويقي لايحمل في نهايتة النهايات ,, شكرا للأديب الكريم هذا التألق الرائق الرقراق المتدفق من ثنايا الذات على صفحات الآهات ,, ودمت بود
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
صور رافقتني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
خربشات الثقافية :: خربشــــــــــــــــــــــــــات أدبية :: خربشات قصصية-
انتقل الى: