نهرته الطبيبة المشرفة" سيدي لا يمكنك التدخين هنا"؛ وهي تخرج من الغرفة،قالت للممرضة بلهجة آمرة "ابقي هنا و راقبي المؤشرات"
رد خالد علبة السجائر ممتعضا إلى جيب سترته، و وقف مطولا إلى جانب السرير، محملقا بشرود في السماء الزرقاء خلف النافذة. ودون أن يستدير، خاطب الممرضة باستعلاء سافر:
- ألم تبد عليها أي إشارات للتحسن؟
- لا سيدي
- كم قد تحتاج من الوقت لتستعيد وعيها؟
- جسدها بدأ بالتعافي، لكن الغيبوبة لا يمكن التنبؤ بنهايتها، قد تستفيق يوما ما، أو"
قاطعها بفظاظة:
- أو ماذا؟ ستراقبينها عن كثب وتخبرين الحراس بأي تطور. مفهوم؟
- حاضر سيدي.
خالد.. حانق من الممرضة، من الطبيبة ومن أحلام؛ وكان أكثر سخطا على نفسه.. جال ببصره من جديد متفقدا تفاصيل الغرفة، بفعل العادة لا أكثر. كل شيء أبيض؛ طلاء الجدران، السريروالأغطية، الطاولة المعدنية الصغيرة قرب السرير، الآلات الموصولة بالكهرباء و بالجسد الممدد، بذلة الممرضة. ربما كان اللون الوحيد الأليف هنا؛ هو الشباك الحديدي الرمادي المحيط بالنافذة.
أغلق الباب خلفه، تجاهل تحية الحارسين المرابطين أمام الغرفة، ومضى مكفهرا، يلتهم خطوه أرضية الممشى الطويل نحو المصعد.
عندما وصل سيارته، أشعل سيجارة، و جر نفسا طويلا كما ليطرد رائحة المستشفى البغيضة الخانقة. بقي برهة مسترخيا على المقعد قبل أن يدير مفتاح التشغيل و يغادر إلى المكتب. كان مساء أحد، و الشوارع تخففت من الزحمة المعتادة، هو الديربي الذي يكنس شوارع البيضاء، وحدها المقاهي مكتظة و تنفث الصراخ و الهتاف على طول الطريق. حين اقترب من حديقة جامعة الدول العربية، وعلى بعد دقائق من قلعته الحصينة، إستداربغتة متتبعا نسيم البحر. مر على "العنق" أراد الذهاب إلى المنارة ثم عدل عن ذلك و تابع طريقه صوب " عين الذياب"، ركن السيارة جانبا، ترجل و نزل الأدراج مسرعا نحو الشاطئ.
" عين الذياب" مكانه المفضل كلما أحس بضيق يثقل صدره، يفترش الرمل و يحدق مليا في البحر، يصغي لتكسر الموج و يرنو للبواخر المنتظرة قرب الأفق. و حسب ظروف العمل ، قد يعرج على إحدى الحانات المصطفة في الجانب المقبل.
هو بحر واحد ممتد يعانق كل الشواطئ. البحر نفسه الذي كان يستحم فيه و يرخي أعصابه المشدودة ب "آسفي". هناك، كان يقتعد صخرة في "سيدي بوزيد" أو " رأس الأفعى" و يراقب الزرقة الممتدة في صخب كاسر. في "عين الذياب" قد يمشي حتى تتعب قدماه دون أن ينتهي الشاطئ، هنا يسلمك البحر نفسه ببذخ و حميمية و شساعة؛ لكنه يفتقد ذلك الإحساس بالتربع على عرش البحر و المدينة، تلك الجلسة الفخمة على أجراف سيدي بوزيد حيث تستلقي آسفي تحت قدميه، الشاطئ الذهبي و الميناء و المدينة التي تبدو ليلا بأنوارها كبرج إيفل مستلقيا بشكل أفقي ؛ هو الإحساس بالطمأنينة ذاته يمنحه البحر أينما قابلته، لكن بعض الأمكنة تعطي طعما آخر للوصال، رائحة اليود أيضا تختلف حدتها من شاطئ لآخر.
البحر هو الفضاء الوحيد الذي يعيد له مؤقتا إنسانيته، قبل أن يغرق في العمل وفي الحانة و السجائر. هل يمقت نفسه؟ يقضي نهاره و ليله في فرار دائم من شيء ما؛ من نفسه. قبالة البحر فقط و وحيدا، يجلس في صفاء، لا يفكر بشيء و لا يفكر بأحد.
منذ جلب أحلام للمعتقل و هوعلى موعد يومي مع البحر. كأنه يغتسل من نفسه، بصمت كامل و خواء كامل. أهو الذنب؟ لم يندم يوما على شيء.أهي الشفقة؟ لا يعرفها مثلما لا يعرفها البحر. أهو التآخي؟ البحر يعطي أكثر مما يأخد؛ يغذي، يصقل، يعطر و يحمم، وهو لا شيء من ذلك.
اليوم به غيظ شديد وثقل مبرح يجثم على صدره. شيء ما فيه تكسر. حالة أحلام فعلت فعلها بنفسه، لكن الطبيبة اليوم مست كبريائه و لم يكن قادرا على الرد، لن يمكنه الرد أبدا. لا يقبل الإهانة إلا من رؤسائه. و لا إمرأة يمكن أن تهينه. أحلام تأدي ثمن إهانتها بالربا الفاحش و ليس وحدها. هذه الطبيبة الساقطة أذلته، ولم تذله أبدا إمرأة، وهو عاجز. بذلتها العسكرية و الرتب تحت الوزرة البيضاء تجعلها بعيدة المنال. ليست مدنية ولا يمكنه شيء حيال الأمر، كل أصدقائه في الأمن لا يمكنهم خدمته و لا يمكنه أن يطلب و يبرر الخدمة، ولا يمكنه أن يواجه طبيبة عسكرية. ليست مجندة عادية؛ للأطباء العسكريين مكانتهم؛ محبوبون و محترمون وهذه الق.. واحدة منهم .
في طاولته المعزولة في الركن، ظل خالد ينادم كؤوس الويسكي المجانية ، محدثا نفسه في سكون و مرارة، حتى أتى على الزجاجة كاملة. المرأة الوحيدة التي يحب و يحترم هي الزجاجة، يفرغها كما شاء وقتما شاء دون شكوى. حصل على جرعته اليومية ونهض للتنفيس عن نفسه في مكان ما..