مرآة الحيّز المكانيّ في ( سرد الذات ) للدكتور سلطان بن محمد القاسمي - ريم العيساوي
ينهض عنصر المكان في " سرد الذات " بوظيفة رسم واقعية الأحداث، فالفضاء له سمات واضحة ودقيقة،فيه من التفصيل والهندسة المحدّدة ما يحيل على مرجعية بعينها.
كما يتلوّن أحيانا بطابع نفسي،كالأماكن المهجورة والبيوت الخالية الموحية بالرعب،أو أماكن الترفيه والاصطياف التي تبعث في النفس إحساسا بالجمال والانشراح.
ينبغي أن نميّز بين نوعين من الفضاء: فضاء السّرد السّيرذاتي،والفضاء السّيرذاتي، وهوحسب " فيليب لوجون " Philippe Le Jeune: (مجموعة التمظهرات السّيرذاتية للمؤلّف خلال وجوده تحت أشكال متنوّعة)، ويقصد به تشكّلات المادّة السّيرذاتية في مجمل الأعمال الخاصّة بصاحب السّيرة، فالأديب يترك جزءا من حياته فيما ينتجه من أدب أوحوارات صحفية أولقاءات تلفزيونية، مجمل هذه المادّة يصنع الفضاء السّيرذاتي للأديب
وأما فضاء السّرد السّير ذاتي فهوالمفهوم المتداول في تحليل السّرد، ويقصد به الفضاء المكاني والزمني والدّلالي والنصّي الّذي يتوصّل إليه من خلال تحليل لسرد نصّ بعينه". * لغة التهميش سيرة الذات المهمّشة - عبد العاطي إبراهيم هواري - جائزة الشارقة للإبداع العربي - الدورة 11 - 2007 - دائرة الثقافة والإعلام الشارقة ص 31 -32
والمكان يتّخذ دلالته التاريخية والسّياسية والاجتماعية من خلال الأفعال وتشابك العلاقات، فإنّه يتّخذ قيمته الحقيقية من خلال علاقته بالشّخصية.
ويولي تحليل الخطاب السّردي عنايته بالفضاء المكاني وهوالفضاء الجغرافي أوالفيزيائي الذي تجري فيه أحداث السّرد الّذي يتحرّك فيه الحدث ويقع عليه الوصف ويحتوي الأشياء،وتلك العناصر يدخل المكان في تشكيلها فهومحورالتخييل السّردي في الرواية، وفي فنّ السّيرة هومحور الأحداث ذات المرجعيّة الواقعية التّاريخية.
وللمكان سطوة تتعدّى في الواقع ما يبد وعلى السّطح من تأثيراتها وفعاليّاتها المباشرة إلى أعماق التّكوين النّفسي للشّخصيات.* صبري حافظ.فصول.مج 2-ع2-ص72.
ونظرا لطبيعة المكان الاستاتيكية، بخلاف الزّمن، فإنّ المكان مرتبط بالوصف أكثر من السّرد الذي تتوثّق علاقته بالزّمن، كما أنّ المكان يرتبط بالأشياء والزمان أكثر ارتباطا بالأحداث.
والمكان بوصفه أحد أبنية السّرد يترابط وأبنية السّرد الأخرى، ويمكن النّظر إليه بوصفه شبكة من العلاقات والرؤى ووجهات النّظر والتطلّعات الّتي تتعاضد لبناء الفضاء.
والمكان يتشكّل بنفس الدقّة التي تتشكّل بها العناصرالسّردية الأخرى، لذلك فهويؤثّر في بعضها ويقوّي من نفوذها، كما يعبّر عن مقاصد المؤلّف، كيف تمظهر الفضاء المكاني في " سرد الذات " ؟ وكيف رسمت ذاكرة الكاتب سماته ؟
مدينة الشّارقة:تجلّت مدينة الشارقة فضاء مدنيا زاخرا بالحركة والنشاط ، متغير الملامح والسمات، فهي ملتقى الأهل والخيرة والضيوف، تبرز صورتها في بداية السّيرة بمطارها معسكرا للقوّات الأمريكيّة والبريطانيّة، مدينة ساحلية منفتحة على خور يقابله برّ الشوش، جغرافيا هي مكان رمليّ يفصل الخورعن البحرالمفتوح.
ومدينة الشارقة هي ملجأ الفارين من جور الإنجليز ومخبأ البعض في الفترات العصيبة، جاء في " سرد الذات ":" قطع الشيخ سلطان بن سالم المسافة بين الوكالة السياسية البريطانية وبيتنا، وهي كيلومترا واحدا جريا من سكة إلى أخرى، حتى وصل إلى بيتنا، وقابل والدي...أخذ والدي الشيخ سلطان بن سالم إلى بوابة المطبخ، ولم يكن الجنود البريطانيون قد وصلوا إليه، وأخرجه من البيت، لا أعرف ما دبّره الوالد في تلك المسألة لأنني بقيت أراقب الجنود البريطانيين، المتمركزين في الساحة.." ص 52..54
وما نلاحظه عناية الكاتب بالتفاصيل الدقيقة وشدّة الأمانة في رصد التفاصيل الصغيرة الخاصّة بجغرافية المدينة وهندستها، فهي من بيوت متواضعة تفصل بأسيجة من سعف النّخيل، وهي موقع الحصن وبيوت الأهل والأجداد، وهي الفضاء الذي يرجع له الكاتب بعد رحيله، والمآب المحبّب لدى الكاتب بعد رحلة البحث والتجدّد،لذلك تحتلّ الأهمية في دلالتها التاريخية والحضارية، والنفسية،فتبدوعلاقة الكاتب بها وطيدة.
الشارقة هي البيت الكبير للكاتب، وتمثل جملة من القيم وهي كيان هندسي مصنوع من أصداء الماضي، وإذا كان بيت الأسرة، هوبيت الطفولة، فالشارقة، هي بيت الحلم، بمعنى البيت المستقبل الذي يطمح أن يحقق فيه الكاتب أحلامه.
بيت الأسرة:احتل بيت الكاتب مساحة ناصعة في سلسلة الذكريات، فجاءت صورته في مستهل الكتاب حاملا أحاسيس تجمع الحنين الممزوج بالألفة مع شيء من الخوف،في تذكر بيت عمه المهجور المجاور لبيتهم المعمور،يسترجع خوفه من الجن، رغم تقارب بيوت أسرته وتمتعها بالحياة والنشاط، والبوابة الغربية لبيته تفتح على ساحة بيوت أعمامه،مما يدل على الرابط الجغرافي الذي يعكس الرابط الروحي والأسري بين أفراد أسرته.
سجّلت " سرد الذات "الوقوف على التغيّرات التي حدثت على المكان وخاصة التي طرأت على بيت الأسرة، كتغيير وظائف بعض الأماكن وساكنيها، فضاء مجلس الوالد ملتقى الأهل والخيرة والضيوف والشيوخ ؛ويتدرّج الكاتب في الرحيل بنا عبر هندسة المجلس الذي ينقسم إلى مجلسين الكبير للعامّة والصغير للخاصّة،واصفا إقبال النّاس على زيارة والده فهولا يمرّ يوم إلاّ وفي بيتهم وليمة كما فصّل الشيخ سلطان هندسة بيت والده تفصيلا دقيقا، ممّا يعكس ذاك الارتباط الحميم بكلّ زاوية فيه، وتوحي اللّغة بالحنين لربوع الطفولة، والانتعاش عند إحيائها. يعدّد الشيخ سلطان مرافق البيت ووظائفها وارتباط البيت بالمسجد وبالسوق وببيت المطوّع فارس عبد الرحمن النجدي،إنّه فضاء فسيح بأجواء الحياة المفعمة بالمعاني الروحية وبالحركة الاقتصادية فضاء مفعم بأجواء المعرفة.
فالبيت هو المكان الأليف، بيت الطفولة، مكان الأحلام وتشكل الخيال، وما وصف الكاتب لصفاته الهندسية، إلا تعبيرا عن ملامح الألفة والتي حققت التفاعل بين الكاتب والقارئ وذلك بعودتنا نحن لطفولتنا.فالبيت هوجذر المكان ويرتبط هذا بفاعلية الخيال، بالنسبة للمبدع والمتلقي."بمعنى أنّ الذكريات المستعادة ليست معطيات ذات أبعاد هندسية، بل مكيفة بخيال وأحلام يقظة المتلقي، وانطلاقا من تذكر بيت الطفولة تتخذ ملامح المكان طابعا ذاتيا وينتفي بعدها الهندسي *جماليات المكان - غاستون باشلار -ترجمة غالب هلسا - مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع - بيروت - ط 6 - ص9
سيرة الحصن: إنّ علاقة التّماهي بين الكاتب والحصن ذات دلالة، يبرز الحصن فيها فضاء فاعلا، ذا سلطة مؤثّرة، تفرض نفسها على وجدان الكاتب وفكره، إلى حدّ التضحية بالذّات في سبيله، وقد خصّص الكاتب لهذا المعلم التاريخيّ، بابا كاملا لما له من دلالات في وجدانه وفي وجدان المجتمع، اهتم بالحصن في الفصل الثالث عشر من الكتاب تحت عنوان (هدم حصن الشارقة).وفي إطار الاهتمام بهذا المعلم، يحدّد الشيخ سلطان تفاصيل موقعه الجغرافي،فهوبمثابة الامتداد لبيت أسرته:" يقع ذاك الحصن إلى الجنوب من بيتنا، لا يفصله عنه إلا الطريق الواسعة المؤدّية إلى أسواق المدينة، حيث نوافذ مجلسنا تطلّ عليه، فتمرّ من خلاله القوافل في الغدو والرواح محمّلة بالبضائع لمن باع وابتاع.هذا رجل يسوقه عسكري يحمل بندقيّة ويدفعه إلى الأمام عندما يحرن في مشيته، مساقا إلى الحصن، وذلك عائد منه مطأطئا، لا تسمع منه إلاّ النّشيج، وهذا رجل يتبختر في مشيته وقد هندم هيئته،مشغول الفكر، ينمّق الكلمات التي سيلقيها على الشيخ، فإذا عاد تعلوه الابتسامة فقد أجزل له في العطاء، أما إذا كان مبرطما فقد عاد خائب الرجاء، ونحن نرقب ذلك صباحا ومساء " ص 16 .
ومن خلال هذا الرصد، تبدو حواس الكاتب متيقّظة، ضرب من الاحتواء الكلّي لهذا المعلم شبيه بالتماهي فيه والذوبان، مع تحقيق القدرة على الغوص في النفس واسشعار الأحاسيس الإنسانية وتباينها.
وتسترجع عدسة الشيخ سلطان الماهرة تفاصيل الحركة واستقراء الملامح وما تخفي وراءها من أسباب، ويسلك في وصف المكان والنّاس أسلوب الروائي في رصد زوايا المشاهد ويتتبّع دقائق التّفاصيل بحرفية المصوّر السينمائيّ الّذي يراوح بين نمنمات المكان وملامح الإنسان حتى تتراءى أمامنا أنفاس الإنسان متناغمة مع أنفاس المكان، أليس الحصن نافذة على العالم الفسيح في ذلك الزمان الطفولي البريء؟ أليس الحصن ذاكرة ثرية من القيم والذكريات عبر تاريخ عابق بالأصالة والتراث ؟ أليس الحصن عين التطلع لحركة الحياة والعين الحارسة لكل ما يمكن حدوثه من أخطار ؟
ويبدوتركيز الشيخ سلطان على وصف الحصن، موقعه، هندسته وشكله، لما له من قيمة، فهويحمل العديد من الدلالات والأبعاد، فهوالذكرى وهوفضاء لأهم الأحداث المفرحة والمحزنة..وهوتاريخ الإنسان عبر حقب متباينة، وهوالأمن والأمان،وهورمز للذائقة في تقسيماته وتوظيف مرافقه، يصف هندسته:" حصن الشارقة مبني مربع الشّكل، له أربعة أركان مهمّة، أوّلها الغرفة، وهي أحد أركان الحصن، حيث تستعمل كمجلس للخاصّة، وهي في الجنوب الشرقيّ من الحصن، يليها " المشرف "،وهوبرج مربّع يطلّ على الجنوب الغربيّ من الحصن، ويستعمل للحراسة، وإلى الشمال الغربيّ يوجد الكبس، وهوبرج دائري، ويستعمل للحراسة أيضا، أما المحلوسة فكانت برجا ضخما، وهي اسم على مسمى،حيث كانت غريبة في بنائها، يستعمل الجزء العلوي منها للحراسة، أما الجزء السّفلي فكان سجنا مرعبا...أما واجهة الحصن فتطلّ على ساحة الحصن، حيث تشاهد بوّابة الحصن الضخمة المزيّنة برؤوس المسامير على هيئة كرات برونزية متلألئة، بين تلك البوّابة والمحلوسة، وضع في مكان ظلها عصرا كرسيّ خشبيّ كبير له مساند خشبيّة كذلك، ويصعد إليه بدرجات من الخشب في جهتين منه ومدفع كبير على عجلات من خشب، يسمّى الرقاص، وآخر أصغر منه على عجلات كذلك." ص 18 .
ويعمد الشيخ سلطان إلى التّفصيل الدقيق لصورة الحصن والوقوف على كلّ مفاصله،
وفي هذا الوصف الدّقيق والأمين يتجلّى لنا الحرص الشّديد منه لاقتناص صورته الكليّة شبيه بالتصويرالذي يتحدّى فعل الزمن، ضرب من الوصف للحفاظ على كنز نفيس والفرار به نحوعالم الخلود والبقاء. ألا يكون هذا الخوف ضربا من الاستشراف لمستقبل الحصن ؟ وخاصة أنّ الكاتب في آخر السّيرة يصدم بهول الخبر، خبر هدمه، ويقع ضحيّة العودة من القاهرة ليتصدّى لعمليّة هدمه متسلّحا بالصّبر والحكمة والتّعقّل لتحقيق الإقناع.ويدفع ثمن هذا الإنقاذ غاليا، حتى أنّه عبّر عن مآله:" كونه صار ضحيّة الحصن".
إنّ خشية الشيخ سلطان من اندثار هذا المعلم، يصوّر وعيه الشّديد بالقيمة المعنويّة للآثار التاريخية التي جمعت جملة من الأحداث والقيم، وما نلاحظه أنّه على غرار الأدباء الرحّالة والجغرافيين وبروح المؤرخ وفكره الواعي بقيمة مصداقية التاريخ يحيط بكلّ المعطيات المتعلّقة بالمكان، لأنّ المكان لا تقف دلالته في صورته المادية، بل يمثّل جزءا من هويّة الفرد ومن هوية الأمة وهومخزون الّذاكرة لعالم بشري حيّ، إنّه الوطن.
ومثلما وصف الحصن بمنتهى الدقّة،وصف موقع السّجن الواقع إلى يسار بوّابة الحصن، مركّزا على شبّاكه الذي يربط السّجين بزوّاره، ويصف شكل تهوئة السّجن من خلال هوّة صغيرة، ويفصّل هندسة السّجن وانفتاح بابه على صالة تسمى "الإصباح".
وتنويعا لأسلوب القصّ، فالشيخ سلطان يربط بين وصف السّجن وما دار فيه من أحداث مستطردا بقصة السجين الذي قطعت يده.وهنا يراوح بين الوصف والسّرد بعيدا عن كلّ ما يبعث الملل في القارئ، مع بعث جوانب من المتعة وتحريك سكونيّة الوصف.وفي هذا تأكيد على أنّ المكان شديد الامتلاء والتعبير عن قصة الإنسان بمفهومها المطلق ومعانيها العميقة.
كما يوحي سجن الحصن بمعاني القيد والتعذيب:" أما الجزء السفلي فكان سجنا مرعبا..أما إلى اليار فهناك سجن التوقيف.." ص 17-18
هنا تبدوعلاقة الإنسان بالمكان علاقة جدلية ثريّة،فالمكان يسهم في تشكيل وعي الذّات ويطبع فكره وهويته،وكذلك يسهم الإنسان في إضفاء خصائص إنسانية على المكان بتغيير بنيته وتلوين فضائه، وهذه العلاقة الجدليّة تتحوّل بفعل التعوّد على مرّ الزّمن إلى علاقة حميميّة يخلّف قطعها أثرا سلبيّا ويصبح الانفصال عن المكان ضياعا لهويّة الذّات.
في تفاصيل المكان وهندسته، يتطرّق الشيخ سلطان إلى مخزن التموين ويذكراسم صاحب التوزيع (ابن كلبان) من موالي الشيخ، ويبدوحريصا كعادته في الإحاطة بالتفاصيل، ما يوزّع من مؤن، ولا ينسى المرافق الأخرى المحيطة بسكن والده كمرآب السيّارات والإسطبلات، وليس هذا من باب الوقوف عند التأريخ والوصف فحسب، وإنما لإبرازأسلوب الحياة في تلك الفترة الزمنيّة، وما تعكسه من مستوى للعيش وللعادات وجملة الممارسات اليومية، وأنماط العيش التي تستند على مكوّنات أصيلة وقيم إنسانية ثابتة.
وفي تطرّقه لوصف المكان يصف الغرفة الّتي يجلس فيها الشيح (حاكم الشارقة) المطلة على الحصن ويدقّق موقعها" أمامها السّطح المكشوف يليه السّاباط المسقوف " ص 18
الحصن مجلس لتجمّع الشيخ مع أولاده وفضاء للتواصل مع الزوّار الذين كانوا يتوافدون عليه في تلك الحقبة لسماع أخبار الحرب العالمية الثانية (1945).
ويسترجع الشيخ سلطان تلك الأخبار،وكأنّها تدور أمام القارئ :" مصدرها صوت المذيع العراقي سليط اللّسان يونس بحري من الإذاعة الألمانية ومذيع هيئة الإذاعة البريطانية لخدمة الشرق الأوسط بصوت المذيع الشامي منير شمّا.إنّه المكان المشرف على الخارج".ص 19
يرسم الشيخ سلطان موقع سكن أفراد الأسرة الحاكمة، وتقاربها مع الحصن، ويدقّق في تفصيل واجهة الحصن من حيث المساحة، والجزء المبني منه والجزء المفتوح، المسمّى بالسّاباط، أين ينزل الضيوف البدوعلى الشيخ.
يتراءى للقارئ وهويقرأ "سرد الذّات" ملامح الفضاء المكانيّ وهندسته المعماريّة ومرافقه ووظيفة كل مرفق، حتّى أنّنا نتخيّل المكان شاخصا أمامنا بحركة سكّانه وديناميّة الحياة فيه، وكأنّنا أمام سيرة مكان لما يشغله في بنية السّرد السّيرذاتي من مساحة واهتمام.
ويصف سقيفة الحصن (السّاباط)، عن شماله البئر، جهته الجنوبية مناخ للإبل، ويركّز في خصوص السّارية المغروزة بين الحصن والساباط:" سارية غليظة طرفها العلوي متفحّم، يربط الخارجون على القانون من سواق ومجرمين بها، يقال لها "حطبة التوبة" ويروي على لسان الصبية سبب تفحمها،بأن تشعل النار في أعلاها وإذا وصلت النار للمجرم فهويعترف".ص 20
ويستطرد بسرد حكاية احتراق السارية في أسلوب يعمد فيه لشدّ القارئ وتشويقه بقصة الرجل الأعمى الفقير الذي أراد أن يشوي السمك،فإذا به يحدث حريقا هائلا أتى على كلّ شيء:" انتشرت النار حتى إلى البحر وحرقت سفينة الغوص المسمّاة " غالب " لصاحبها ابن مذكور، وبلغت أعلى سارية السفينة لكن حتى إذا ما وصلت النار إلى ارتفاع قامة أوتزيد من ظهر السفينة، شوهد الشيخ صقر بن خالد القاسمي، حاكم الشارقة قادما على حصانه من جهة طريق السّيف، فأمر أن تقطع الحبال التي تثبت السارية في السفينة، ويرمى الجزء المتبقي من السّارية في البحر لتنطفئ النار بماء البحر، ثم أمر بنقل الجزء المتبقي من السّارية إلى أمام الحصن ليغرز بالأرض هناك، ليربط بها السّارقون والمجرمون وقد عرفت بحطبة التوبة " ص 22 .
وفي فضاء السّرد يقصّ علينا الشيخ سلطان تاريخ هذه السّارية واستعمالاتها عند الغوص في حالة خوف الغوّاصين من أسماك القرش وتمارضهم، معتمدا على أسلوب المقارنة:" بالأمس كان ذلك الجزء من سارية السفينة يربط به الغواصون الذين يتمارضون عن النزول لقاع البحرلاستخراج اللؤلؤ، خوفا من أسماك القرش...واليوم يربط بها المتهمون ويجلدون لانتزاع الاعتراف بذنوبهم " ص 22
و يعود الكاتب في ص 78 ليصف سجن المحلوسة بالحصن، راويا قصة سجن قاطع الطريق من قبل والده وهوشاهد على هذا الحدث :" يفتح باب سجن المحلوسة في القسم الداخلي من بعد البوّابة يقال له الإصباح، حيث الحراسة مكثّفة، عندما كنا نمرّ في طريقنا إلى السّاحة الدّاخلية إلى الحصن، لا نتوجس من أصوات المساجين هناك، حيث كان باب ذلك السجن، في نهاية ممرّ ضيّق، ولا يستطيع المرء أن يتحقق من شكل ذلك الباب من شدّة الظلام، ولا يسمع شيئا يأتي من الدّاخل لسماكة خشب ذلك الباب " ص 78.
هذا السجن مظلم ورائحته كريهة، والسّجين قاطع الطريق لقي فيه أمرّ العذاب، وذلك ليكون عبرة للآخرين.
وصف صاحب "سرد الذّات" حالة السجن المزرية بتفاصيل دقيقة متوخيّا الأمانة في النقل تكفي هذه الجملة للتعبير:" يداه موثقتان خلف ظهره ..تجمّع الغائط حول مؤخّرة رأسه، وبال على بطنه وصدره." ص 80.
ويصف عفووالده على ذلك السجين وكيفية ترحيله، بوقوفه عند أدقّ التفاصيل ويأتي وصفه قريبا للتصوير السينمائي.
وتبدوطريقة تحديد المواضع بالنسبة للحصن طريقة ذات هدف، مثل تدقيقه لمكان المدافع والمستعمل منها وفي أيّ مناسبة، ويتظافر وصف المكان بربطه بالمناسبات كأن يؤمرالعسكري المكلّف بالمدافع إطلاق طلقة عند حلول ضيف مهمّ على الشيخ سلطان ابن صقر القاسمي، وهي من بروتوكول الضيافة في تلك الفترة كنزول الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود ضيفا عندما كان في طريقه للهند.ويطلق المدفع كذلك بمناسبة حلول العيد للتعبير عن الاحتفال.
لذلك يحتلّ الحصن في وجدان كاتب "سرد الذّات" المقام الرفيع، فهوالمكان الأثير لما له من قيمة تاريخية وحضارية ووجدانية في حياته، وقد هزّه خبر تهديمه عندما كان في القاهرة يواصل تعليمه في السنة الرابعة بكلية الزراعة، وكان يصادف شهر يناير 1970 م وصله من أحد الأصدقاء الأمر بهدم حصن الشارقة،فما كان منه إلا أن عاد إلى الشارقة لإيقاف ذلك الهدم. وتمثّل قصة رفضه لهدم الحصن من القصص الحاملة للعبر والدروس في الحفاظ على تراث الأجداد وقيمهم، ولعلّ النص يحمل المعاني العميقة في تربية النشء على حب الأسلاف والاعتزاز بتاريخهم:" أوقفت عمليّة الهدم، وسارعت للقصر لمقابلة الشيخ خالد بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، وشرحت له ما يمثّله ذلك الحصن بالنسبة لأهالي الشارقة.
وسألت الشيخ خالد: لماذا تهدّم الحصن ؟
قال:لا أريد له أثرا (كان يقصد الشيخ صقر بن سلطان القاسمي حاكم الشارقة الأسبق).
قلت: الحصن أثر من آثار أجدادك وأجدادي، أما أثر الشيخ صقر بن سلطان فهوالقصر الذي تسكنه أنت.
أُفحم الشيخ خالد، وقال: اذهب وأوقف عملية الهدم.
قلت: لقد أوقفتها منذ الصباح الباكر." ص 382- 383.
ولجهود الشيخ سلطان ورفضه تهديم الحصن وترميم ما هدّم منه وقد كاد يضيّع عليه فرصــة الامتحان بالقاهرة ورجـــوعه لأخذ قياســــاته، درس ذو دلالة، وقـصة ذات عبروموعظة سرد:" رجعت إلى موقع الحصن، وأخذت أنقل تفاصيل مقاسات المباني التي يتكوّن منها. قد سهّل عملية نقل المقاسات وجود الأساسات ظاهرة للعيان.كما جمعت الأبواب وبعض الشبابيك الخشبية، ثم دهنتها بمادة طاردة للحشرات، واحتفظت بها في مكان آمن، آملا أن أعيد الحصن يوما ما " ص 383- 384.
إنّ هذه المهمّة كلّفت صاحب "سرد الذّات" تأخيرا في رجوعه للقاهرة لإجراء الامتحان وحاول العودة بطرق عديدة لكنّ الأمر لم يتحقّق إلاّ عن سبيل الرشوة، ممّا يقوي عنصر الصّراحة والنقد في نص هذه السّيرة. كلّ هذا، يؤكّد تعلق الإنسان بهويته وتاريخ أجداده.
إن قصّة الشيخ سلطان مع الحصن، قصّة ذات دلالات ثرّة، تحمل سيرة ملحميّة، بين الإنسان والمكان، فيها من الطّرافة والجدة،ما يرقى بها للآفاق الإنسانية، كما يتجلّى فيها البعد الوجداني والبعد التاريخي في أنصع صورة.
شجرة الرولة: تمثّل شجرة الرولة الكائنة داخل مدينة الشارقة ملمحا من ملامح المدينة، ركّز الشيخ سلطان عليها لما لها من قيمة في وجدان المجتمع ومخياله، واصفا جملة الأنشطة التي تقام تحت أفنانها،ومنها الألعاب التي تمارس تحتها يوم العيد، شجرة ضخمة وارفة تدخل في الطّقوس والعادات:"تعلّق الحبال على الأغصان الكبيرة من شجرة الرولة وتجلس الفتيات في صفين على الحبال، وتشبك كلّ فتاة أصابع رجليها بالحبال التي تجلس عليها الفتاة التي تقابلها، فتتكون المرجيحة من ثماني فتيات، أما الفتيان فيقومون بشط المرجيحة، أي إبعادها إلى أعلى بكل عفة " ص 30.
إنها صورة جميلة لشجرة الرولة وما تنعم به من حيوية واهتمام يوم العيد،وإحياء الذاكرة لحقبة زمنية، كانت مفعمة بالصفاء والسعادة وتجسيد لتلك اللحظات الهانئة التي يعيشها الناس تحت ظل تلك الشجرة الوارفة المتشحة بوشاح من الإجلال والهيبة.
ولا تخلو"سرد الذات " من تفاصيل تؤكد هويّة المجتمع العربيّ المسلم، وقضية الوطن ومقومات حضارته الأصيلة. وإذا كانت شجرة الرولة فضاء لأوقات الأفراح،فهي أيضا مكان القضاء وإصدارالأحكام، فقد قيّد إليها الرجل البلوشي الذي اتّهم بحرق زوجته لإعدامه:"ألقي القبض على الرجل البلوشي، وأحضر لدى القاضي، فحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص، لم يكن سيد عبدالله، زعيم البلوش في الشارقة، ولم يكن هناك من يدافع عن هذا الرجل، فاقتادوه خارج البلد، بالقرب من شجرة الرولة، التي كانت تقام تحتها الأعياد والأفراح، لتنفيذ حكم الإعدام." ص 212
إنّ " سرد الذّات " تنفتح على الفضاء المكاني انفتاح الرواية، حسب ما تفرضه المشاهد والذكريات والشّخوص وما تحمله تلك الأمكنة من قيم،سواء كانت قيما معنوية ذاتية تتعلّق بكاتبها أوقيما موضوعية عامّة تشمل مجموعة بعينها، وتتعدّد الأمكنة فمنها العمرانية ومنها الرعوية، وهذا الفضاء بالذّات يحمل في الذّاكرة العديد من الدّلالات والقيم .
مكان الاصطياف:
في إطار الاهتمام بالفضاء يصف الشيخ سلطان مزرعة الفلج إقامة عمّه الشيخ سلطان ابن صقر القاسمي، وبعد تفصيل هندسة المزرعة وذكر مرافقها يركّزعلى الحوض الغربيّ المخصّص للاستحمام مدققا تفاصيله:" قد غطّي بتعريشة عليها أشجار الياسمين، التي كانت أزهارها تتساقط على رؤوس المستحمين..التي كانت قد زرعت في قاعدة مضلّعة ومكسوة بالقيشاني المزخرف بأشكال الورود في وسط الحوض.أما حول الحوض فقد زرع بالرياحين، وأسراب من الغزلان تجري هنا وهناك" ص32 .
ندرك في "سرد الذّات" عناصر من جماليات المكان، مكان ذوطابع رومانسي، يحمل في تفاصيله ذائقة رفيعة ويشدّ القارئ لعوالم ساحرة تغمره بالبهاء والدهشة ويوقظ شاعريته وأحلامه.
ومثلما وصف الأماكن العمرانيّة المأهولة وما يطرأ عليها من تغيّرات، فهويصف البقاع الفلاحية وجمالها، التلال، المزارع التي زرعها والده في الصالحية بالقرب من الحيل إحدى قرى العقد الأخضر.
وتحتلّ الأماكن الطبيعية التي تقصدها عائلة الكاتب للاصطياف مساحة مضيئة في الذّاكرة ففي حديثه عن مصيف " شعم "،يستحضر المكان بتفاصيله الدقيقة:" شعم، بلدة صغيرة،وهي آخر بلدة تابعة لرأس الخيمة، وهي شريط رملي ضيّق على شاطئ البحر، وسهل حصوي ضيّق به بعض أشجار السمر، يقال له "الفي"،وبعده الجبال العالية وهي تحيط بشعم من الناحية الشرقية وتوقف امتداد الشاطئ من الناحية الشمالية.." ص 69.
ويواصل تدقيقه في جغرافية المصيف، متعجّبا من إنتاج المنطقة الجبليّة لنوع من التين الكبير الجيّد، والبندق المسمّى "ميز " هذا السّرد يربط جنس الكتابة السّيرذاتية بأدب الرحّالة والجغرافيين، ثم يعكس خبرة بأنواع النبات والثمار،تثري فنّ السّيرة وتفتح آفاقها المعرفية.
المدرسة والمكتبة:
وفي رسم ملامح الفضاء العمراني، يعطي الشيخ سلطان كلّ التّفاصيل ويرسم الصورة الدقيقة للمدرسة كفضاء لتلقي العلم، مما يعكس المستوى الذي عليه التعليم والرغبة الملحّة لطلب المعرفة.يتتبّع تطوّر المدرسة عمرانيا وما يطرأ عليها من تحسينات تدعوها الضرورة :" عدنا بعد قضاء فترة الصيف في رأس الخيمة إلى الشارقة لنرى أنّ مدرسة الإصلاح القاسمية، والتي كانت مبنيّة بسعف النخيل، قد استبدلت بمبنى بأحجار مرجان البحر والجصّ.." ص75 .
ويصرّح بأنّ التغيّرات كثيرة، ومنها تبدّل اسمها من مدرسة الإصلاح القاسمية إلى المدرسة القاسمية وتخصيص فصل للبنات وإضافة مكتبة وازدياد عدد الطلاّب المتخرجين والمنتسبين.
ويحتلّ وصف المكتبات في "سرد الذّات " رتبة هامّة، مثلما يصف المدن على طريقة الرحّالة الجغرافيين، فالمكتبة معلم مهمّ، جدير بالوصف، في رحلة الحجّ يصف مكتبة بوشناق:"تقع مكتبة بوشناق في الجزء الأوّل من المسعى، ناحية جبل الصفا، حيث يفصل الجزء الأوّل من المسعى عن الأجزاء الأخرى الطريق العام الوحيد في مكة، وكان حصويا، حيث كان مجرى الوادي، يعرف ذاك الفاصل بمنطقة الهرولة فكان كثير من الحجّاج يظنّ أنّ تلك الهرولة للمرور من أمام السيارات، كان الثلثان الآخران من المسعى عبارة عن سوق مسقوف، على جوانبه الحوانيت حتى جبل المروة، ويفصل بين الذاهبين والقادمين في المسعى سور حديدي " ص 170.
وجاء في وصفه لصحن الحرم:" صحن الحرم به أربعة مقامات لأربعة أئمة، الحنبلي والحنفي والمالكي والشّافعي الّذي كان مقامه فوق مبنى بئر زمزم، أمّا المقامات الأخرى،فكانت عبارة عن مظلّة في صحن الحرم، وكان لكلّ مقام إمام يجتمع إليه النّاس يسألونه عن أمور دينهم تبعا لمذهبهم " ص 171.
مدينة القاهرة:
لمدينة القاهرة موقع هام في ذاكرة الكاتب ووجدانه، فهي المدينة التي نهل من جامعتها العلوم والمعارف وهوالشّاهد على التحوّلات التي طرأت على ملامحها،وهي الفضاء الذي حقق فيه طموحاته وتطلعاته وربط فيه علاقات إنسانية حميمة.
لذلك فقد خصّص الشيخ سلطان بن محمد القاسمى مساحة كبيرة في " سرد الذّات " لمرحلة دراسته بمصر وهي تمتدّ من سنة 1965 م إلى سنة 1972 م وتسجيله في هندسة الزراعة بجامعة القاهرة.
والملاحظ أنّ الإحساس الذي أرّخ به هذه المرحلة هوإحساس من الامتنان والعرفان،ومن أنبل معاني الاعتراف بجميل هذا الوطن وفضله،وما وفرّه له من فرص مواصلة الدّراسة وتجارب حياتية مفيدة وعلاقات ثرية.
تجلّت صورة القاهرة في نفسه مدينة جميلة وإن تشكّلت بصورة مخالفة في عين أخيه صقر عندما زارها في شهر رمضان،وأبدى استياءه من مشهد المقابر والرائحة الكريهة التي قابلها في طريقه من المطار إلى منزل شقيقه ؛وعرّف الشيخ سلطان سبب تأفّف أخيه،حيث إنّ سيارة الأجرة التي استقلّها،أخذته من المطار عن طريق صلاح سالم حيث المقابر،مارا بسور مجرى "العيون" الذي تقع خلفه مدابغ الجلود باعثة بروائحها الكريهة، ولم يرض الشيخ سلطان أن يأخذ شقيقه هذا الانطباع عن قاهرته التي يحبّها،فقال له :"بعد أن تستريح سآخذك للتفرّج على القاهرة».
وبالفعل اصطحبه في جولة بالمدينة،بدءا من مدخلها ناحية المطار،ومنه إلى مصر الجديدة بشوارعها الجميلة ومبانيها الحديثة المزيّنة بالأشجار وبعد الإفطار،أخذه إلى الحسين لصلاة التراويح،فرأى السّاحات مليئة بالنّاس،ينتظرون إقامة صلاة العشاء،ومن بعدها التراويح.
ولم تكن هذه الحكاية فقط هى دليل على حبّ الكاتب لمصر،وتعامله معها باعتبارها وطنه الثّاني،ولكنّه أيضا عند نكسة يونيو1967م،نجده يحكى بحماس: «كنّا قد امتحنّا في بعض المواد،عندما سمعنا صوت المدافع،خرجت إلى الشارع فوجدت النّاس تهلّل وتكبّر،وكان آخرون ينظرون إلى السّماء محاولين مشاهدة بعض الطائرات الحربية،وهى تحلّق على ارتفاع عال في يوم مغبر».ص349
كان طبيعيّا أن يتعاطف مواطن عربيّ يعيش ويدرس بالقاهرة مع المصريين بعد حصول عدوان كهذا،ولكنّ اللاّفت أنّه ذهب إلى رفاقه ليشاركهم تطوّعهم في طلب نقلهم للجبهة،ولمّا لم يكونوا قد تلقوا أيّ دورات تدريبيّة عسكرية،تقرّر نقلهم إلى معسكر بني يوسف بالهرم،وخلال يومين تمّ تدريبهم على السلاح، قبل أن ينقلوا إلى المعسكر المقام بنادي الجزيرة.
في ظل هذا الحماس جاءتهم المفاجأة التعيسة مساء التاسع من يونيو1967م،تلك المفاجأة التي رجّت الشارع المصري والعربي،وهى تنحّي الرئيس جمال عبد الناصر.
وتعكس " سرد الذات " صورة القاهرة، مدينة عامرة في شهر رمضان، ذات طابع إسلامي، تبهر زائرها بما تتحلّى به من حيوية وجمال وإشعاع ثقافي:"كانت الساحات والشوارع العامة مليئة بالبشر، تنتظرإقامة صلاة العشاء ومن بعدها التراويح. بعد أداء الصلاة، انفضّ الناس، كأنّهم جراد منتشر، كان هناك معرض للكتاب، ومسرح مؤقت تعرض عليه الفرق الشعبية فنونها .." ص 371
وكأنّ الكاتب، يخفي الوجه القبيح للقاهرة، لأنّه لا يبصرها بالعين فقط، بل يبصرها بوجدانه وروحه الممتنّة، فتضمحلّ تلك الصورة العارضة وتحلّ محلها الصورة الحقيقية الثابتة:" وما هي إلا عدة أيام وإذا بصورة القرافة قد غطتها صور المباني التراثية الجميلة، وإذا بالروائح الكريهة للمدابغ تزول، وتحلّ محلّها الروائح الزكية لحدائق القاهرة وبساتينها".ص 371
ولإبراز الكاتب الجانب الديني في هذه العاصمة المعزّية، خصّص عنوانا في" سرد الذّات" (ما أكثر المؤمنين فيك يا مصر!)،صوّر فيه إقبال النّاس على الصلاة ، وقد اصطحب معه السيد عمير بن عبد الله لأداء صلاة يوم الجمعة:" ذهبنا لنصلّي بمسجد ابن ثعلبة، بين عمارات تلك المنطقة، وإذا بالأزقة المؤدّية إلى المسجد مليئة بالمصلين، ففرشنا السجادتين حيث انتهت صفوف المصلين، وقتها كانت جموع المصلين تردّد خلف دعاء الخطيب: - آمين..آمين..آمين..!
قال السيد عمير بن عبد الله: أين المسجد ؟
قلت: بعيد
قال: ما أكثر المؤمنين فيك يا مصر !" ص 373
إنّه عنوان ذودلالة عميقة على تديّن أهل القاهرة، وتأكيد على القيم الروحية التي تضفي على المكان طاقة من الجاذبية وهالة من السحر تشدّ الإنسان إليها.
وأبرز الكاتب، استقطاب هذه المدينة للزائرين، واضطرار الفنادق إلى إضافة غرف لاستيعاب الضيوف.كما أشار إلى العادات والتقاليد في هذه المدينة بسرده زيارة السيد عمير بن عبد الله الفلاسي للقاهرة وتضجّره من كثرة الأصوات:" من أصوات الطبول والدفوف، والرقص والغناء، كل ليلة..وعندما أراد أن يضيّفني، أخذني إلى المبنى الرئيسي للفندق، حيث صالة الطعام.وما إن دخلنا إلى صالة الفندق، وإذا بزفة عروس بالدفوف والمزامير تصكّ الآذان وهي نازلة من أعلى السلالم، تتقدمهم راقصة، لايسترها إلا القليل، وإذا بها في مواجهتنا " ص 372
إنه جانب من الفولكلور والعادات والتقاليد بهذه العاصمة الكبيرة، ورغم إقبال سكانها على المرح وسفور راقصاتها، فإن الجانب الديني حاضر بقوة ممّا جعل الكاتب يتعجّب من كثرة المصلين بمساجدها .ويعكس هذا الجدول الفضاء المكاني في "سرد الذّات" وما أضفاه من عناصر فنية سردية وجمالية وتتابع الأحداث بها.
لابد من الملاحظة أنّ العمل الأدبي حين يفتقد المكانية، يفتقد خصوصيته، وبالتالي يفقد أصالته بمعنى أن المكان يحمل خصوصيته ويحمل دلالات عديدة.وتفصح " سرد الذّات " عن وعي كاتبها بقيمة المكان وقدرته على إدراجه في نسيج السّرد،مما يحقّق دلالته وقدرته على تبليغ المعنى والنهوض بوظيفة التأثير والمحورية.
ويوثّق الشيخ سلطان تاريخ المكان وذاكرته الخالدة وخاصّة ذلك المكان ذو القيمة الأثرية والتاريخية، فيدقّق في موقعه الجغرافي، وقربه من بيت عائلته، ولك أن تتخيّل مشهد الحصن وما تدور حوله من حركة تدلّ على الحياة ونبضها الحيّ،يصوّرها الشيخ سلطان بعدسة رجل الكاميرا الماهر، ملتقطا أدق التفاصيل وأعمقها دلالة.
أما الطبيعة وأماكن الاصطياف في "سرد الذات" فهي محاطة بهالة من الصفاء والإشراق، ينصهر فيها الكاتب وينعم فيها بلحظات من الحرية والاستجمام، ويتحسّر على فراقها.كما اضطلع عنصر المكان بوظائف خارجة عن عالم السّرد الداخلي، ومنها الوظيفة التعليمية خاصة في تقديم جملة من المعلومات التاريخية والجغرافية أوالبيئية من شأنها التعريف بها وتمكين المتلقي من الإحاطة بها.كما جاء عنصر المكان في "سرد الذات" ناهضا بوظيفة نقدية، فكان لغاية تقديم جملة من المواقف والآراء.عامة فالفضاء في "سرد الذات" فضاء ثريّ، يزخر بالتفاصيل الصغيرة، فضاء متغيّر.لوحة ذات تفاصيل ملونة وملامح وإيقاعات الحياة للجماعة البشرية التي تعمّره، وانطلاقا من عملية التذكر فإنّ ملامح المكان تتخذ طابعا ذاتيا متماهيا مع بعدها الهندسي. إنّ تسليط الكاتب على المكان وما يعكسه من أبعاد حضارية وروحية يمثّل خصيصة من خصائص "سرد الذّات" سواء على المستوى المضموني أوالأسلوبي .