خرج من غرفة معتمة، مفعمة برائحة جوارب نتنة...تسودها فوضى راقصة، حيث الوسائد مرتمية على البساط،وفوق مائدة تتربع المكان، إذ تنعكس عليها ضياء شمس آتية بالتدريج نحو رأسه،لتلهبه من جديد معلنة بدء يوم جديد من أيام "التشوميرة والزلطة والحرمان".
آه الحرمان...الحرمان الذي يعانيه بقسوة،حالما توقظه نار هذه الشمس اللعينة،التي لا تتوانى عن ممارسة عادتها السيئة هاته،إذ تحرمه من كل أولائك الحسناوات اللائي يحطن به في عراء صارخ. يلتهمن لحمه الرقيق بتلذذ ولهفة،إذ سرعان ما يفتح عينيه،ترتطم بلون السواد الذي تخلفه البرودة،أو الرطوبة في السقف، كأول مؤشر عن الحرمان، ولون الكبث الذي سيعانيه خلال يومه هذا.
تناول أكواب شايه المنعنع الذي "تبخته" له أمه،وهو يثفل، ويسب بعد أن قام،وحاول أن يركز في صلاة الصبح،إذ تأكد له من خلال تفحصه لسرواله الداخلي، أن خصيتيه لم تجودا في تلك الليلة الماضية حتى بأدنى قطرة عن حسناواته اللائي التهمن قضيبه باستجداء دون أن يجود، ثم خرج وأخذ بترديد التحية على ابا امحمد، ثم الضب الهروي،والكواي،واتجه إلى مرصده عند رأس الدرب بجانب حانوت الجزار ذي الواجهتين.
أخذ تتبع الرائحين والآتين، كأنه في ملعب لكرة المضرب،ثم بعد لحظة عرف أن ذلك اليوم يوم اثنين،حيث تجمعت الكراريس و"الكرويلات" في الشارع، وأخذ أصحابها ينادون على المتوجهين للسوق.
فجأة تقع عيناه على ساقين غليظتين يلمعان ببياض شهي جراء سقوط أشعة شمس الصيف عليهما...هاته الشمس التي أيقظته كرها،هي التي توقظ فيه رغبته ونزواته الآن.صعد ببصره عبر الجسد الممدد في "الكروسة" كله، ثم وقعت عيناه في عينيها. ابتسمت، تلفت بحركة أوتوماتيكية سريعة نحو مصطفى الكزار، وجده منشغلا ينشر عظما غليظا، عاد ببصره إليها ليتأكد أن الرسالة له،وسرعان ما تلخبط،وطار قلبه من بين القوسين المفتوحين أحدهما عكس الآخر وارتعشت أطرافه وثقلت عليه:
- "ماذا فعلت هذه البقرة الرومية الشقراء؟"
إنها تردد الغمزة. تردد قليلا و...ابتسم، أخيرا ابتسم لها.
نزلت وهي تحمل قفتها، وقصدت زنقة "دار الحليب"، أو شارع الحب- كما يحلو لأهل مدينة برشيد أن يسموه- وهي تشير له بيدها أن يتبعها.
- "أمم لم تكن تنتظر إذن إلا أن أبتسم لها."
- "أن أعبر لها عن قبولي، فلأ تبعها إذن."
وفعل المطلوب. تبعها، فوجدها تنتظره تحت الشجرة المتفرعة الأعراش، التي تتداولها أفواج وأفواج متعاقبة..يتسابقون حولها..كل زوج يتريث متحينا فرصة انصراف الزوج الذي سبقه، تنتظره بحرارة تفتح لها فمها بضحكة عريضة،أسفرت عن آخر أضراسها.
قالت له:
- "مالك تعطلتي آلبانضي؟ آو كاع اللي بغى يشوفك يتسخسخ معاك هاكا؟"
- "آح آشمن تسخسيخ أالزين سخسخناك؟"
- قالها وهو يشد جأشه وداخله يردد:
- "أخيرا..أخيرا، السبع بو البطاين زعم."
- "هاد الاثنين غير خرج فيه البلان مشي هو هداك، وغدي يتحققوا فيه الأحلام."
- "ربما هذه هي اللي كانت كتشطح ليا بمايو أحمر ولبارح."
قالها وهو يبتسم، ثم مد لها يده، فارتمت عليه بقبلتين، امتصت من خلالهما صدغيه، لم يجد تفسيرا لذلك سوى ما قاله في داخله، أنها هي التي كانت معه في تلك الليلة الشهريارية. باغتته قائلة:
- "أنت واجد؟"
أخبرها أنه سيعود بعد خمس دقائق، ليأخذها معه إلى حيث تسعد وتتمتع.
ذهب عند عزيز الطويل مهرولا ، دون تردد لأنه سبق أن أخبره أنه سيحتاجه في يوم من الأيام ليأتي عنده "بجمته للبرتوش ديالو " كي يقضي معها وقيتا، والآخر طالما رحب به، ومن كثرة ما ردد عليه الطلب فقد كان ينتظر مجيء ذاك الوقت بفارغ الصبر، وباهتمام كبير،وفضول مضاعف. وصل عنده للحانوت الذي يكتريه منهم، لم يخذله عزيز، كما لم يخذل رغبته – هو أيضا – في التعرف على عشيقة ذاك "المصنكع".أعطاه المفاتيح، أخذهم وطار إلى رأس الزنقة.."الدورة" التي يمكن أن يطل منها على شارع الحب من أوله إلى آخره، قرب المحكمة.رآها تنتظره في المكان الذي تركها فيه، هدأت روحه، و"عصعص" قضيبه على حد تعبيره:
- "عصعت آبوعزة؟ وما تخممش هآ أنت غدي تبرد."
لوح لها بيده، لمحته فأسرعت نحوه،وهي تضع "قب الجلابة" الوردي على رأسها،وهو يتدلى مغطيا وجهها إلى حدود الذقن. انتظر حتى اقتربت خطواتها منه،هرول إلى الباب، أدار فيه المفتاح بحركة جنونية، ثم دلف يصعد الدرجات، وهو يلتفت نحو الباب، ينظر هل دخلت؟ إلى أن توقف على درج لا يمكن أن يبدو من عليه للمار أمام الباب، إذ لا تبدو من أسفل سوى ساقاه، وقدماه، وهما ترتديان حذاء "نايكي إيرماكس"، تبعته للدخول بسرعة لا تتماشى مع ثقلها،وبدانتها.
- "سدي..سدي ..اغلقي الباب."
قالها بحدة،ورجاء وترقب،وخوف في الوقت نفسه، ثم استأنف صعوده باقي الدرجات، وهي تتبعه،مطقطقة بكعبها، الذي سرعان ما أثاره صوته، فتوقف، وأشار لها بيده، أن انزعي النعل:
- "إنه يكاد يثقب الأرض بتركز ملاحتك عليه آلغزال."
فلم تتردد،ونزعته وهي تقول له:
- "خاطرك آلعفريت، الخويويف."
ظل مسمرا في مكانه يتابعها وهي تصعد إليه منتشيا بمنظر ثديين عاجيين، تهتز لهما ركائز الدار، وركائزه كلها هو أيضا.أصبحت تفصلهما عن بعض درجة واحدة، مد لها يده، فأمسكت بها ضاغطة عليها وهي تشد بالأخرى نعليها السوداوين اللامعين، وأحست به يختطفها، إلى أن أوقفهما "باب الفصيل" المغلق، الذي مارس عليه تشويقا هتشكوكيا، بعدم مطاوعة قفله في الانفتاح بسرعة لدرجة أنه ثفل عليه، فانفتح كأنه خاف ثورة بغل لم يخصى، اخترقا ردهة "المرح" وهو يضع يده على عجيزتها، ثم وقف أمامها، خلف باب "البريتش" المتركن في يسار الشقة، ببابه البني القاتم الذي كتب عليه بحروف لاتينية "S .V.P.A " التي هي اختصار ل:" انتظرمن فضلك." وهالته هذه العبارة، فدق الباب، وتعجبت هي من ذلك سائلة:
- "ماذا تصنع؟"
تخوف مما قد يبدر منها، وغرز المفتاح في ثقب القفل، أداره بسرعة، فانفتح الباب هذه المرة...تبدت لهما مائدة صغيرة، عليها وضعت منفضة سجائر،وعلبة عود ثقاب مرسوم عليها فراشة،وعلى يمين المائدة سرير، أكيد أنه مسروق من "سبيطار المهابيل"، ركز أعلاه مصباح صغير أحمر. جلسا فوقه، مباشرة أمام أعينهم نافذة مغطاة بستارة سوداء قاتمة، كي تظل الغرفة مظلمة، تتمدد تحتها "ناموسية"، سرير يتسع لشخصين، مغطى بإزار مورد، تفحصا المكان بنظرة فاحصة خاطفة، فانتبها لبعضهما،وعيناه في عينيها...ابتسما، عانقها...ضمها بقوة:
- "توحشتك"
وسرعان ما سمعت الكلمة، انفلتت من بين ذراعيه بحركة بهلوانية،وهي قائلة:
- "قبيح مع راسك."
جمع يديه،واعتدل في جلسته وسألها:
- " مالك ألزين ما توحشتيناش؟"
وجاء الرد من حيث لم يضرب له حسابا،فارتبك قليلا، وعرف أن عليه أن يلتزم ببروتوكول الحفل.فأخذ في فتح المساءلة معها،وأخذ الحوار بينهما مجراه ،رفقة القبل،وتكلما في كل شيء،وعن كل شيء،وعن لا شيء،ووجدا نفسيهما تحت الغطاء، والساعة تشير إلى الثامنة والنصف مساءا.تسللت من جواره،تقلب الملابس الملقاة على الأرض، وبينما هي منحنية، ارتمى عليها من الخلف، وضمها إليه بقوة، تلفتت له، قبلته قبلات متوالية، منها الطويلة والقصيرة، وعادا على إثرها تحت الغطاء، وتعالت أصوات ،فرقعات متناغمة،وآهات ترددت، إلى أن عم صمت فاسحا المجال لكلام الليل.
أيقظه هذه المرة رنين منبه ساعة الحائط بثماني رنات.هب من مكانه مسرعا،وقد أدرك أنه بات خارج البيت...وتذكر أمه و...و...
فأسرع بارتداء ملابسه، لدرجة أنه لبس قميصه مقلوبا، لكنه سرعان ما لفت نظره،عدم تحرك المرأة.. البقرة...فبدأ بتحريكها،يحاول إيقاظها، لكنها لم تجبه.
برشيد_ سطات في :28_04_97
أحمد عبد الغني